ووقعت الصيحة والضجيج في الدار. ثم فك الرقعة فإذا فيها مكتوب بخطه: يا أمير المؤمنين! اقرأ سورة الفجر إلى رابع عشرة آية فاعتبر بها، واعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ثم أمر المأمون فغسل وكفن وأخرج ليدفن; والمأمون يمشي حتى صلى عليه. فلما وضع في حفرته أمر الخدم، فقال: اخرجوا من القبر. ثم اطلع في القبر، فقال: يا بني! رحمك الله وأعطاك أمنيتك ورجاءك; إذا إني لأرجو أن يكون الله تعالى قد أسعدك ونفعني بك; فنعم الولد كنت; جمع الله بينك وبين ابن عمي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورزقني الصبر عليك. ثم قال: سوؤا عليه. فدخل الخدم فأطبقوا عليه ألواحه. ثم قال: أهيلوا عليه التراب. وهو واقف يصيبه الغبا والخدم قيام معهم المناديل يردون عنه الغبار. فقال:
إليكم عني! يبلى علي في التراب وتردون عني الغبار؟! ثم قال: اللهم!
ثبته بالقول الثابت، وأشهدك أني راض عنه يا أرحم الراحمين!
والرقعة في يده لا يضعها. فدعا محمد بن سعد الترمذي فأمره أن يقرأ سورة (الفجر). فجعل يقرأ والمأمون يبكي حتى بلغ (إن ربك لبالمرصاد) [الفجر: 14]، فأمسك.
فتصدق عنه بألف ألف درهم، وأمر بعرض السجون وأطلق عنهم، وكتب إلى العمال بإنصاف الرعية ورد المظالم، ونزع عن أمور كثيرة. وبقي بعده لا يذكر إلا بكى، وهو مكروب لا يرتاح للذة ولا لشهوة. وينتاب مجلسه الفقهاء يبصرونه ويعظونه. فما زالت هذه حاله حتى مات رحمه الله.