أقول: قد اختلف العلماء في ترجيح الانزواء والوحدة والفرار عن الناس على الاجتماع والائتلاف والاستيناس أو العكس، فذهب بعضهم على رجحان الخمول واخماد الصيت والانعزال من الناس على الألفة والانس والاجتماع والمعاضدة، ومستنده الأخبار المتقدمة وما يشبهها من الأدلة السمعية الكثيرة الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) المسلمة بين المسلمين، وقد ذكرنا قبسا ثاقبا منها.
وذهبت طائفة إلى رجحان الاجتماع والترافق والتعاون والتآلف، ومستمسك هذه الطائفة أيضا طوائف كثيرة من الأدلة السمعية كقوله تعالى:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.، وكقوله تعالى فاستبقوا الخيرات.
وكقوله تعالى: تعاونوا على البر والتقوى إلى غير ذلك من الآيات التي تجري مجراها، وكذلك تمسكوا بالاخبار الحاثة على الاجتماع، والرادعة عن التفرق والانزواء، وبالاخبار الدالة على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالأدلة المرغبة في العلم المنفرة عن الجهل.
والحق أن كل واحدة من الحجتين على اطلاقها ليست على ما ينبغي، إذ رب شخص لا يجوز له الانقباض والانفراد عن المجتمع مثل ما إذا كان وجب عليه عينيا - بالذات أو بالعرض - ارشاد الناس وحملهم على الصراط السوي، ورب شخص يكون الاجتماع عليه محرما، مثل ما إذا كان اجتماعه مع أبناء نوعه مستلزما للوقوع في الحرام والفساد، اما لأن نفسه ضيقة لا تساعده على تحمل الحق والثبات على الصدق مع الاياب والذهاب إلى المجتمع أو لأن المجتمع فاسد ولا يمكنه التوقي عن مفاسدهم مع معاشرتهم ومراودتهم كما هو الشأن لأكثر الناس عند استفحال البدع وظهور الفحشاء والمنكر باستيلاء الكفار أو الظلمة والفسقة على دست السلطة ومقاليد الحكم.
ولا تعارض بين الطائفتين من الحجج، لان أدلة الاستيحاش والانزواء