هذا مجرى قولهم: اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا معناه لا تخل بيننا وبين من لا يرحمنا فيتسلط علينا، فكأنهم قالوا: لا تخل بيننا وبين نفوسنا وتمنعنا ألطافك فنزيغ ونضل.
وثالثها ما ذكره الجبائي وهو أن المعنى لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك، و معنى هذا السؤال أنهم سألوا الله أن يلطف لهم في فعل الايمان حتى يقيموا عليه ولا يتركوه في مستقبل عمرهم فيستحقوا بترك الايمان أن تزيغ قلوبهم عن الثواب وأن يفعل بهم بدلا منه العقاب.
ورابعها أن تكون الآية محمولة على الدعاء بأن لا يزيغ القلوب عن اليقين والايمان ولا يقتضي ذلك أنه تعالى سئل ما كان لا يحب أن يفعله، وما لولا المسألة لجاز فعله لأنه غير ممتنع أن ندعوه على سبيل الانقطاع إليه والافتقار إلى ما عنده، بأن يفعل ما نعلم أنه لابد من أن يفعله، وبأن لا يفعل ما نعلم أنه واجب أن لا يفعله إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم: " ولا تخزني يوم يبعثون " (1) وكما قال تعالى في تعليمنا ما ندعو به: " قل رب احكم بالحق وربنا الرحمن " (2) وكقوله تعالى: " ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به ". (3) وقال رضي الله عنه في قول نوح عليه السلام: " لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ": ليس في هذه الآية ما يقتضي خلاف مذهبنا لأنه تعالى لم يقل: إنه فعل الغواية أو أرادها، وإنما أخبر أن نصح النبي عليه السلام لا ينفع إن كان الله يريد غوايتهم، ووقوع الإرادة لذلك، أو جواز وقوعها لا دلالة عليهم في الظاهر، على أن الغواية ههنا الخيبة وحرمان الثواب، ويشهد بصحة ما ذكرناه في هذه اللفظة قول الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما فكأنه قال: إن كان الله يريد أن يخيبكم ويعاقبكم بسوء عملكم وكفركم و يحرمكم ثوابه فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه، إلا أن تقلعوا وتتوبوا