فصل مرتبة الرضا عالية جدا على مرتبة الصبر، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة، نسبة المعصية إلى الطاعة، فإن المحبة تقتضي اللذة بالبلاء، لأنه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه، فيزيد قربه وأنسه. والصبر بمقتضى كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه، والكراهة تنافي الأنس، فتبين بذلك أن الصبر والمحبة متنافيان.
وأيضا، فإن الصبر إظهار التجلد، وهو في مذهب المحبة من أشد المنكرات نكرا، وأظهر علامات العداوة طرا، كما قيل:
ويحسن إظهار التجلد للعدي * ويقبح إلا العجز عند الأحبة ومن هنا قال أهل الحقيقة: الصبر من أصعب المنازل على العامة، وأوحشها في طريق المحبة، وأنكرها في طريق التوحيد.
وإنما كان أصعب عند العامة، لأن العامي لم يتدرب بالرياضة، ولم يتحنك بالصبر على البلاء، ولم يتعود بقمع النفس، فلم يحتمل البلاء، ولم يكن من أهل المحبة حتى يتلذذ بالبلاء، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء - وهو في مقام النفس - لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها.
وإنما كان أوحش المنازل في طريق المحبة، لأن المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب، والالتذاذ بالبلاء، لشهود المبتلى فيه وإيثار مراد المحبوب، والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مر، فيتنافيان.
وإنما كان أنكر في مقام التوحيد، لأن الصابر يدعي قوة الثبات، ودعوى الثبات والتجلد من رعونات (1) النفس، والتوحيد يقتضي فناء النفس، فيكون أنكر لأن إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات بل الرضا مع عظم قدره وعلو أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه، لأن سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم، والرضا هو فناء الإرادة الحق تعالى، والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى، وفناء الصفة قبل فناء الذات.
وقد تبين لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة.