بالموت مزيد واستكشاف، وهذا أمر واضح من حيث الاعتبار، وتشهد له جملة من الآثار، وردت من أحوال المحبين وأقوالهم، يأتي بعضها إن شاء الله تعالى، وهذه مرتبة المقربين.
الدرجة الثالثة: أن يبطل إحساسه بالألم، حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمه.
ومثاله الرجل المحارب، فإنه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها، حتى إذا رأى الدم استدل به على الجراحة، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه، ولا يحس بألمه لشغل قلبه، بل الذي يحجم، أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم بها، فإن كان قلبه مشغولا بمهم من مهماته، يفرغ الحجام أو الحالق، وهو لا يشعر به.
وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه.
ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا، واشتغالهم بها، واكبابهم عليها، حتى لا يتألمون، ولا يحسون بالجوع والعطش والتعب - لذلك - كثير مشاهد عيانا، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهده محبوبه، قد يصيبه ما كان يتألم به، أو يغتم لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه، لفرط استيلاء الحب على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه، فكيف إذا أصابه من حبيبه؟!
وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل، وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف، تصور في الألم العظيم بالحب العظيم، فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة، كما يتصور تضاعف الألم، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبية، وجلالها لا يقاس بها جلال، فمن انكشف له شئ منه فقد يبهره، بحيث يدهش ويغشى عليه، فلا يحس بما يجري عليه.
كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
وكان بضعهم يعالج غيره من علة فنزلت به، فلم يعالج نفسه، فقيل له في ذلك، فقال: ضرب الحبيب لا يوجع.