فصل في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم كانت العرب في الجاهلية - وهم لا يرجون ثوابا، ولا يخشون عقابا - يتحاظون (1) على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله إيثارا للحزم، وتزينا بالحلم، وطلبا للمروة، وفرارا من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى كان الرجل منهم ليفتقد حميمه فلا يعرف ذاك منه، فلما جاء الاسلام وانتشر، وعلم ثواب الصبر واشتهر، تزايدت في ذلك لهم الرغبة، وارتفعت للمبتلين الرتبة.
قال أبو الأحوص: دخلنا على ابن مسعود وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير حسنا، فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال: كأنهم تغبطوني بهم؟ قلنا: إي والله، بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم فرفع رأسه إلى سقف بيت قصير، قد عشش فيه الخطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف، وينكسر بيضه، يعني: حرصا على الثواب.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرئ الناس القرآن في المسجد جاثيا على ركبتيه، إذا جاءت أم ولده بابن له، يقال له: محمد فقامت على باب المسجد، ثم أشارت له إلى أبيه، فأقبل، فأفرج له القوم حتى جلس في حجره، ثم جعل يقول: مرحبا بسمي من هو خير منه، ويقبله حتى كاد يزدرد ريقه.
ثم قال: والله لموتك وموت إخوتك أهون علي من عدتكم من هذا الذباب (2)، فقيل: لم تتمنى هذا؟ فقال: اللهم غفرا إنكم تسألوني، ولا أستطيع إلا أن أخبركم، أريد بذلك الخير، أما أنا فاحرز أجورهم، وأتخوف عليهم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يأتي عليكم زمان يغبط الرجل بخفة الحال، كما يغبط اليوم بكثرة المال والولد).
وكان أبو ذر رضي الله عنه لا يعيش له ولد، فقيل له: إنك امرؤ لا يبقى لك ولد، فقال الحمد لله الذي يأخذ من دار الفناء، ويدخرهم في دار البقاء (3).