الباب الرابع: في البكاء إعلم أن البكاء بمجرده غير مناف للصبر ولا للرضا بالقضاء، وإنما هو طبيعة بشرية، وجبلة إنسانية، ورحمة رحمية أو حبيبية فلا حرج في إبرازها ولا ضرر في اخراجها، ما لم تشتمل على أحوال تؤذن بالسخط وتنبئ عن الجزع وتذهب بالأجر، من شق الثوب ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها.
وقد ورد البكاء في المصائب عن النبي صلى الله عليه وآله، ومن قلبه من لدن آدم عليه السلام، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم.
فأول من بكى آدم عليه السلام على ولده هابيل، ورثاه بأبيات مشهورة، وحزن عليه حزنا كثيرا، وإن خفي شئ فلا يخفى حال يعقوب عليه السلام، حيث بكى حتى ابيضت عيناه من الحزن (1) على يوسف عليه السلام.
ومن مشاهير الأخبار ما روي الصادق عليه السلام، أنه قال: (إن زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره، قائما ليله، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه، ويقول: كل يا مولاي، فيقول:
قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا، فلا يزال يكرر ذلك، ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل) (2).
وروي عن بعض مواليه أنه قال: برز يوما إلى الصحراء فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه، فأحصيت عليه ألف مرة، وهو يقول: (لا إله إلا الله حقا حقا، لا إله إلا الله تعبدا ورقا، لا إله إلا الله إيمانا وصدقا) ثم رفع رأسه من سجوده وإن لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيدي، ما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقل؟
فقال لي: ويحك، إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان نبيا ابن نبي ابن نبي، له اثنا عشر ابنا، فغيب الله واحدا منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحد ودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء، وابنه حي في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني، ويقل