مهجة الألباب، ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب، ووعد أبواه شفاعته فيهما يوم المآب.
فلذلك جمعت في هذه الرسالة جملة من الآثار النبوية، وأحوال أهل الكمالات العلية، ونبذة من التنبيهات الجلية، ما ينجلي به - إن شاء الله تعالى - الصدأ عن قلوب المحزونين، وتنكشف به الغمة عن المكروبين، بل تبهج به نفوس العارفين، ويستيقظ من اعتبره من سنة الغافلين، وسميتها (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) ورتبتها على مقدمة، وأبواب، وخاتمة.
أما المقدمة: فاعلم أنه ثبت أن العقل هو الآلة التي بها عرف الله (1) سبحانه، وحصل به تصديق الرسل والتزام الشرائع، وأنه المحرض على طلب الفضائل، والمخوف من الاتصاف بالرذائل، فهو مدبر أمر الدارين، وسبب لحصول الرئاستين، ومثله كالنور في الظلمة، فقد يقل عند قوم، فيكون كعين الأعشى (2)، ويزيد عند آخرين، فيكون كالنهار في وقت الضحى.
فينبغي لمن رزق العقل أن لا يخالفه فيما يراه، ولا يخلد (3) إلى متابعة غفلته وهواه، بل يجعله حاكما له وعليه، ويراجعه فيما ير شده إليه، فيكشف له حينئذ ما يوجب الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، سيما فيما نزل به من هذا الفراق، من وجوه كثيرة، نذكر بعضها:
الأول: إنك إذا نظرت إلى عدل الله وحكمته، وتمام فضله ورحمته، وكمال عنايته ببريته، إذ أخرجهم إلى الوجود من العدم (4)، وأسبغ عليهم جلائل النعم، وأيدهم بالألطاف، وأمدهم بجزيل المعونة والإسعاف، كل ذلك ليأخذوا حظهم من السعادة الأبدية والكرامة السرمدية، لا لحاجة منه إليهم، ولا لاعتماد في شئ من أمره عليهم، لأنه الغني المطلق، والجواد المحقق.
وكلفهم بالتكاليف الشاقة، والأعمال الثقيلة، ليأخذوا منه حظا وأملا وليبلوهم أيهم أحسن عملا، وما فعل ذلك إلا لغاية منفعتهم، وتمام مصلحتهم، وأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم الكتب، وأودعها ما فيه بلاغ للعالمين.