فصل للرضا ثلاث درجات، مترتبة في القوة ترتبها في اللفظ:
الدرجة الأولى: أن ينظر إلى موقع البلاء والفعل الذي يقتضي الرضا، ويدرك موقعه، ويحس بألمه، ولكن يكون راضيا به، بل راغبا فيه، مريدا له بعقله، وإن كان كارها له بطبعه، طلبا لثواب الله تعالى عليه، ومزيد لزلفى لديه، والفوز بالجنة التي عرضها السماوات والأرض، وقد أعدت للمتقين.
وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين.
ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه اصلاحه، فإنه يدرك ألم ذلك الفعل، إلا أنه راض به، وراغب فيه، ومتقلد من الفصاد منة عظيمة بفعله.
ومثله من يسافر في طلب الربح، فإنه يدرك مشقة السفر، ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة الصبر، وجعله راضيا به، ومهما أصابته بلية من الله تعالى - وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته - رضي به، ورغب فيه، وأحبه، وشكر الله تعالى عليه.
الدرجة الثانية: أن يدرك الألم كذلك، ولكنه أحبه لكونه مراد محبوبه ورضاه، فإن من غلب عليه الحب كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حب الخلق بعضهم بعضا، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم، ولا معنى له إلا ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر.
وما هذا الجمال إلا جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث، بدايته من نطفة مذرة (1)، ونهايته جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة.
والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة، التي تغلط في ما ترى كثيرا، فترى الصغير كبيرا، والكبير صغيرا، والبعيد قريبا، والقبيح جميلا.
فإذا تصور الانسان استيلاء هذا الحب، فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي، الذي لا ينتهي كماله المدرك بعين البصيرة، التي لا يعتريها الغلط، ولا يزيلها الموت، بل يبقى بعد الموت حيا عند الله، فرحا مسرورا برزق الله، مستفيدا