وعن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميرا على الجيش في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان، ودعوت الناس للغزاة، ورغبتهم في الجهاد، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها، ثم تفرق الناس وركبت فرسي، وسرت إلى منزلي، فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس وجها تنادي: يا أبا قدامة، فمضيت ولم أجب، فقالت: ما هكذا كان الصالحون، فوقفت، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة، وانصرفت باكية، فنظرت في الرقعة وإذا فيها مكتوب، أنت دعوتنا إلى الجهاد، ورغبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك، فقطعت أحسن ما في، وهما ضفيرتاي، وأنفذتهما (١) إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله، فيغفر لي.
فلما كان صبيحة القتال فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسرا، فتقدمت إليه وقلت: يا غلام، أنت فتى غر (٢) راجل، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها، فارجع عن موضعك هذا، فقال: أتأمرني بالرجوع، وقد قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار﴾ (3)؟ وقرأ الآية إلى آخرها.
فحملته على هجين كان معي، فقال: يا أبا قدامة، أقرضني ثلاثة أسهم، فقلت: أهذا وقت قرض؟ فما زال يلح علي حتى قلت: بشرط إن من الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك، قال: نعم، فأعطيته ثلاثة أسهم، فوضع سهما في قوسه ورمى به، فقتل روميا، ثم رمى بالآخر فقتل روميا، ثم رمى بالآخر، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع، فجاءه فجاء سهم فوقع بين عينيه، فوضع رأسه على قربوس سرجه، فتقدمت إليه، وقلت: لا تنسها، فقال: نعم، ولكن لي إليك حاجة إذا دخلت المدينة فأت والدتي، وسلم خرجي (4) إليها وأخبرها، فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك، فسلم عليها، فهي العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي، ثم مات، فحفرت له، ودفنته.
فلما هممت بالانصراف عن قبره قذفته الأرض، فألقته على ظهرها، فقال أصحابه: غلام غر، ولعله خرج بغير إذن أمه، فقلت: إن الأرض لتقبل من هو شر من