يخطر ببالنا أبدا أن في يقينك ضعفا وفي دينك غشا ونفاقا فنخاف بما قلنا من المدح والثناء أن يدخل في قلبك تجبر وتكبر كما يدخلان بهما في قلب ضعيف اليقين والناقص في الدين، ثم أشار إلى أن ثمرة ذلك القول ليست راجعة إليك حيث أنه لا يوجب رفعا لدرجتك بل هي راجعة إلينا لأنه يوجب قربنا إلى الله وإليك وتوسعنا في الثواب وأداء شكر لله تعالى بإعظامه أمرك بقوله (ولكنا نقول لك ما قلنا) من المدح والثناء.
(تقربا إلى الله تعالى بتوقيرك) وتبجيلك وتعظيمك حيث أنه من أعظم الطاعات الموجبة للقرب منه تعالى (وتوسعا) لنا بمزيد الثواب (بتفضيلك) على الأمة كلهم و (شكرا) لله تعالى (بإعظام أمرك) وهو نعمة جليلة من الله تعالى بها علينا ثم أشار إلى أنه في مقام التسليم له في جميع الأمور بقوله (فانظر) إلى ما ترى فيه صلاحا (لنفسك ولنا) من أمر الدين والدنيا (وأثر أمر الله على نفسك وعلينا فنحن طوع فيما أمرتنا) طوع بالضم وشد الواو المفتوحة: جمع طايع كركع وراكع والطايع:
السلس القياد الذي لا يكره ما يراد منه (ننقاد من الأمور مع ذلك فيما ينفعنا) أي ننقاد لك فيما ينفعنا من الأمور بالعمل به مع الطوع والرغبة وعدم الكراهة منه، ففي الفقرة الأولى إشارة إلى الانقياد قلبا وفي الثانية إلى الانقياد عملا، وكل ما أمر به (عليه السلام) فهو نافع فقوله فيما ينفعنا لبيان الواقع لا للتقييد (فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام)) طالبا منهم أن يكون ظاهرهم فيما قالوا موافقا لباطنهم وبالعكس (فقال: وأنا استشهدكم) أي جعلكم شهداء (عن الله على نفسي) بالشفقة والموعظة الحسنة والنصيحة الخالصة لكم في الأمور المطلوبة منكم (لعلمكم فيما وليت به من أموركم) علة لتخصيص الشهادة بالحاضرين ضرورة أن الشهادة بالشيء موقوفة على العلم بذلك الشيء ولفظه «في» للظرفية المجازية أو بمعنى الباء (وعما قليل يجمعني وإياكم الموقف بين يديه) «ما» زائدة غير كافة للجار عن العمل وإسناد الجمع إلى الموقف مجاز وفيه تنبيه على قرب القيامة وحث على تحصيل ما ينفع فيها (والسؤال عما كنا فيه) عطف على الموقف.
(ثم يشهد بعضنا على بعض) بما فعل في هذه الدنيا كما وقع ولما كانت الدنيا دار كمون قد يقع الشهادة فيها على خلاف الواقع لغرض من الأغراض الفاسدة بخلاف الآخرة قال: (فلا تشهدوا اليوم بخلاف ما أنتم شاهدون) عليه في (غدا) قوله «شاهدون» في موضع تشهدون عدل عنه تصويرا لما سيقع بصورة الواقع (فإن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية ولا يجوز عنده إلا مناصحة الصدور في جميع الأمور) المراد بمناصحة الصدور: خلوصها عن الغش بأن لا تظهر خلاف ما تضمر وهي معتبرة في جميع الأمور سواء كانت دنيوية أم أخروية وسواء كانت شهادة أم عبادة أم موعظة أم نصيحة أم غيرها، وهذه الفقرة تعليل لقوله (فلا تشهدوا - إلى آخره) تقريره أن شهادة الآخرة من صميم القلب قطعا وشهادة الدنيا إذا كانت بخلافه كانت بمجرد اللسان مع مخالفة