العبد إليه عز وجل بالنوافل والقيام بها والثبات عليها تقربا معنويا ويتصل به اتصالا روحانيا حتى يصير قوله كقوله وفعله كفعله وأمره كأمره فيصدر عنه حينئذ أمور غريبة وأفعال عجيبة، وفيه تشبيه لقربه بالقرب المكاني للإيضاح (وتوكل علي أكفك) أمره بالتوكل وضمن له الكفاية فإنه إذا توكل العبد عليه وصرف قلبه إليه وسكن سره واستقر أمره وأعرض عن أمور الدنيا وعكف بين يديه وقام بامتثال أوامره وترك نواهيه كفاه الله تعالى مهمات دنياه وأخراه كما قال في التنزيل (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
(ولا تول غيري فاخذلك) أي لا تتخذ غيري وليا ناصرا فأخذلك وأترك نصرتك وعونك وأكلك إلى ذلك الغير وهو لا يقدر على شيء.
(يا عيسى اصبر على البلاء) الصبر على البلاء أمر العقلاء، إذ العاقل يعلم أن البلاء جار لا يدفعه الجزع فيصبر، وإن الجزع والاضطراب بلاء على بلاء فيصبر ويحترز عن تضعيفه وإن البلاء يوجب رفع الدرجات على تفاوت مراتبها والصبر يقتضي الوصول إلى أعلاها فيختار الصبر للوصول إليه وأن الصبر مفتاح الفرج فيصبر طلبا له ولما لم يكن الصبر على البلاء موجبا للرضاء به أمره به فقال:
(وارض بالقضاء) القضاء الأمر والحكم والخلق على وفق التقدير الأزلي فالقدر بمنزلة الأساس والقضاء بمنزلة البناء وهو إقبال القلب إلى الواردات من الحق وتلقيها بالقبول والسرور بها لكونه هدية منه تعالى ثم الرضاء والسرور بالواردات المحبوبة للنفس مثل الصحة والسعة سهل عليها لأنها موافقة لطبعها وأما الرضا بالواردات المكروهة فمشكل، ويمكن دفعه بأن الرضاء ثمرة المحبة البالغة، ومحبة العبد للرب إذا بلغت حد الكمال يمكن أن يرجح إرادته على إرادة نفسه بل يمكن أن لا يرى لنفسه مرادا غيره تعالى لاستغراقه في بحر المحبة.
(وكن كمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى) أمره بكونه دائما لما يوجب سروره تعالى فيه، ثم بين ما يوجبه بأنه الطاعة مطلقا بجميع أنواعها من غير اقتراف معصية.
(يا عيسى أحي ذكري بلسانك) تشبيه الذكر بالميت في سقوطه وسكونه وعدم اعتباره عند أكثر الخلق مكنية وتعلق الإحياء به تخييلية، وذكر اللسان تجريد.
(وليكن ودي في قلبك) كأنه إشارة إلى أن ذكر اللسان ليس ذكرا حقيقة ما لم يكن القلب متيقظا ولم يكن المذكور ووده فيه فإن الذكر اللساني عبادة وكون المذكور وحبه في القلب روح لها وسبب لحياتها وحياة القلب وبه يبلغ العبد مقام القرب، ولا خير في عبادة لا روح لها.
(يا عيسى تيقظ في ساعات الغفلة) هي ساعات النوم وساعات الاشتغال بالضروريات من الدنيا وبأمور الخلق، والمراد بالتيقظ في هذه الساعات ذكره تعالى والإتيان بوظايف الطاعات وغيرها مما يوجب القرب بالحق والحذر مما يوجب البعد منه (واحكم لي لطيف الحكمة) أي أحكم لأجلي أو لرضاي في قلبك الحكمة اللطيفة الدقيقة وهي العلم بما ينفع في الآخرة والأسرار