ولئلا يميل طبعك إلى طبعهم فإن الفتنة علة مسرية ولئلا يصيبك عذاب إن نزل بهم.
(يا عيسى حقا أقول) «حقا» منصوب بفعل مذكور أي: أقول قولا حقا، أو بفعل مقدر قبله لوجود المفسر له، وهذا القول الحق هو قوله (ما آمنت بي خليقة إلا خشعت لي) الخليقة الناس والخشوع «فروتنى كردن» وهو ضد التطاول والترفع، ومبدؤه العلم بأن كل موجود مقهور في تصريف قدرته تعالى ومربوط بربقة الحاجة إليه فإن هذا العلم يوجب تخشعه وتخضعه في الأفعال القلبية والبدنية وإقباله إليه تعالى، وهذا صريح في أن الإيمان الذي ليس معه خشوع ليس بإيمان حقيقة.
(ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي) لأن رجاء ثوابه يوجب الإقبال إلى ما يوجبه بقلب خاشع له تعالى فلولا رجاء الثواب لم يحصل الخشوع، ألا ترى أنك إذا لم ترج من زيد شيئا لا تخشع له أصلا، ومن هاتين المقدمتين ظهر أن الإيمان لا يتحقق بدون رجاء الثواب والعمل له.
(فأشهد أنها آمنة من عذابي ما لم تبدل أو تغير سنتي) أشهد إما متكلم أو أمر، وفي التفريع دلالة على أن الأمن من العذاب متوقف على الخشوع والرجاء وأن الأمن منه ثابت لها ما لم تبدل هذه الحالة بحالة التطاول والترفع وما لم تغير شيئا من السنة (يا عيسى ابن البكر البتول) البتل: القطع، سميت بتولا لكونها عذراء منقطعة عن الأزواج أو عن الدنيا.
(ابك على نفسك بكاء من قد ودع الأهل وقلي الدنيا وتركها لأهلها وصارت رغبته فيما عند إلهه) أشار بذلك إلى أعلى درجات الزهد ورغبته في تحصيله حيث أمره أولا بوداع الأهل والميل إلى سفر الآخرة وتفويض حالهم إلى ربهم لأن الاشتغال بأمورهم مانع من هذا السفر، وثانيا بقلي الدنيا وبغضها لأن محبتها أيضا مانعة، وثالثا بتركها لأهلها الراغبين إليها لأن بغضها مع عدم تركها أيضا مانع، ورابعا بالرغبة فيما عند الله تعالى من قربه وإحسانه والسعادة الأبدية والنعماء الاخروية.
فإذا حصلت هذه المراتب لأحد دخل في مقام المحبة وهو ما دام في هذه الدار لا يخلو عن فراق ما من المحبوب وكأن شأنه البكاء فلذلك أمره ببكاء من كان على الوصف المذكور فلذلك قيل:
العارفون المحبون يبكون شوقا إلى المحبوب، والمذنبون يبكون من خوف الذنوب.
(يا عيسى كن مع ذلك تلين الكلام وتفشي السلام يقظان إذا نامت عيون الأبرار) لما كان التآلف والتلطف من أسباب تحقق النظام بين الأنام حض على السبب الجالب لها من لين الكلام وإفشاء السلام وقوله «تلين» و «تفشي» و «يقظان» أخبار، والأول مضارع لين بالتشديد أو ألان يقال لينت الشيء وألنته وألينته على النقصان والتمام مثل أطلته وأطولته أي صيرته لينا، والثاني من الإفشاء بمعنى الإذاعة والإشهار والثالث مفرد غير منصرف للوصفية والألف والنون المزيدتين وترك العطف فيه لأنه جايز في الأخبار المتعدد مع رعاية عدم التناسب وعدم قصد الاشتراك في