من التعدي والدخول فيما حظر عليهم لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره فجعل قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والاحكام ومنها انا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس ولما لا بد لهم منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لا بد له منه ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون فيئهم ويقيم لهم جمعهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم ومنها أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والاحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك على المسلمين لأنا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحاءهم فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول (ص) لفسدوا نحو ما بينا وغيرت الشرائع والسنن والاحكام والايمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين.
فإن (قائل): فلم لا يجوز أن لا يكون في الأرض إمامان في وقت واحد وأكثر من ذلك؟ قيل: لعلل منها أن الواحد يختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما وذلك انا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهمم والإرادة فإذا كانا اثنين ثم اختلفت هممهما وإرادتهما وتدبيرهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه فكأن يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد ثم لا يكون أحد مطيعا لأحدهما إلا وهو عاص للاخر فتعم معصية أهل الأرض ثم لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة والايمان ويكونون إنما أتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر والفساد إذ أمرهم باتباع المختلفين ومنها أنه لو كانا إمامين لكان لكل من الخصمين أن يدعو إلى غير الذي يدعو إليه صاحبه في الحكومة ثم لا يكون أحدهما أولى بان يتبع صاحبه فيبطل الحقوق والاحكام والحدود ومنها أنه لا يكون واحد من الحجتين أولى بالنطق والحكم والأمر والنهي من الاخر وإذا كان هذا كذلك وجب عليهما أن يبتديا بالكلام وليس لأحدهما أن يسبق صاحبه بشئ إذا كانا في الإمامة شرعا واحدا فإن جاز لأحدهما السكوت جاز السكوت للاخر وإذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق