ولو كان سمع ولم يكن أصوات؛ لم يكن للسمع موضع، فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا، فجعل لكل حاسة محسوس يعمل فيه، ولكل محسوس حاسة تدركه، ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس والمحسوسات لا يتم الحواس إلا بها كمثل الضياء والهواء؛ فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون، ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع؛ لم يكن السمع يدرك الصوت.
فهل يخفى على من صح نظره وأعمل فكره أن مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس والمحسوسات بعضها يلقى بعضا، وتهيئة أشياء أخر بها تتم الحواس لا يكون إلا بعمد وتقدير من لطيف خبير؟
فكر يا مفضل، فيمن عدم البصر من الناس وما يناله من الخلل في أموره؟
فإنه لا يعرف موضع قدمه، ولا يبصر ما بين يديه، فلا يفرق بين الألوان، وبين المنظر الحسن والقبيح، ولا يرى حفرة إن هجم عليها، ولا عدوا إن أهوى إليه بسيف، ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات، مثل الكتابة والتجارة والصياغة، حتى أنه لو لا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى...
تأمل - يا مفضل - الجفن على العين كيف جعل كالغشاء، والأشفار (1) كالأشراج (2) وأولجها في هذا الغار، وأظلها بالحجاب وما عليه من الشعر. (3)