ثم أطلقها صرخة، والدموع تنساب من عينيه، وقد أحس بالاستضعاف:
ما لك؟ (يقصد عمر بن سعد) قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلط عليك من يذبحك على فراشك. ثم رفع يديه الكريمتين نحو السماء وتمثل قائلا:
اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمدا خلقا وخلقا ومنطقا وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه اللهم، فامنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقا، ومزقهم تمزيقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا.
قاتل علي الأكبر القوم، وأبوه يرى بلاءه فيهم. واشتد العطش عليه، فعاد إلى أبيه يستسقيه، ليستجمع قواه، ويكر من جديد على جيش الأعداء. غير أن الحسين (ع) أدرك أنه ليس بينه وبين مفارقة الحياة إلا فترة قصيرة. ففضل أن يبقى على عطشه حتى يلقى الله تعالى فأعطى بذلك لابنه روحا جديدة، فقال له: (ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبدا). ثم راح يقاتل الأعداء، فحملوا عليه وطعنوه بالرماح وضربوه بالسيف على رأسه، وقطعوه بالسيوف قطعا. وفارقت نفسه الحياة، وجاء أبوه يودعه، فما وجده إلا جثة هامدة مضرجة بدماء العزة الإيمان. فقال: على الدنيا بعدك العفا ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول يعز على جدك وأبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك وتستغيث بهم فلا يغيثونك.
إنهم يدركون أن نسل الرسول صلى الله عليه وآله مهدد بالانقراض. وهم يمعنون في ذلك. فبنو أمية أنفع لهم من بني هاشم التي أخذتهم بالعزائم ونغصت عليهم حياتهم بالورع والفضيلة.
كان معسكر الحسين (ع) مكتضا بالأطفال والنساء. اشتد عليهم العطش، ولا يزال الحسين (ع) وآل بيته يستسقون القوم، فلم يجيبوهم. كان (العباس) حاضرا ذلك المشهد، وضاق صدره وطلب من الحسين (ع) أن يخرج إلى القوم الظالمين. فنادى في القوم.