للبصيرة، ذلك أنه طرح عزل علي (ع) وهو يرى في عزل (الحق) حقا، وليس ذلك إلا تنازلا للباطل. ولذلك اقترح ابن عمر، ولم يكن هذا الأخير، بمن يستحق طرحه في سياق الاستخلاف، غير أن السذاجة غلبت على مواقف الناس، وما رأيت رجلا خذل الحق في الإسلام، مثل ابن عمر، الذي كان يدرك كل شئ، ولا يتكلم، ويخشى أن يقول الحق، خوفا من الفتنة، والفتنة ليست سوى تغييب الحق والسكوت عنه.
يذكر ابن الأثير، إن معاوية حصر الحكمين وإنه قام عشية في الناس فقال:
أما بعد من كان متكلما في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، قال ابن عمر: فاطلعت جبوتي فأردت أن أقول يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة ويسفك فيها دم، وكان ما وعد الله فيه الجنان أحب إلي من ذلك، فلما انصرفت إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلم فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذلك ثم خشيت، فقال حبيب: وفقت وعصمت، وهذا أصح.
ترك هؤلاء للباطل فرصة للظهور، ولم يقفوا مع الحق، وهو في حاجة إلى من يسنده. وقف الإمام علي (ع) وحيدا، ليس معه سوى عصبة من المؤمنين الذين لا تهزهم الأطماع، ولا الحطام، الفئة التي نذرت حياتها للحق دون سواه، والباقون كانوا إما قاسطين أو مارقين أو ناكثين.
خرجت من جيش علي (ع) يومذاك فرقة من الخوارج زعموا أن الحكم لله، شعارا ساذجا، يخفي داخله الضباب والأمية الإسلامية، ولذلك كبر الإمام علي (ع) قائلا: الله أكبر، كلمة حق يراد بها باطل).
لم يشأ (ع) أن يقتلهم يوم النهروان إلا بعد أن اضطروه إلى ذلك، ولطالما حاورهم، ورفع الراية البيضاء يستتيبهم، خرج بعضهم وبقي شرارهم معتصمين لجهلهم، فحاربهم وبقيت بعد ذلك حفنة من الخوارج، تائهة في فلوات الجزيرة، تبشر بجهلها، وتبيت لعلي (ع) وانتشرت في البلدان، وانتشر معها الغباء.