فيها وفيما فيها من زخارف ونعيم، فلم يغره شئ من زبارجها، ولا ما فيها من جاه ومقام، وهو يعلم أن عاقبة ذلك كله إلى فناء وزوال، فلا يبذل جهده في نيلها ولا يكدح في طلبها، تراه يكتفي منها بأقل ما يلزمه منها من قوت، وما لا بد له منه من متاع، رغبة في الدار الآخرة ونعيمها الخالد، وإيثارا لها على دار الغرور والفناء، قال الله تعالى (والآخرة خير وأبقى) (1).
ولما كان إمامنا (عليه السلام) نشأ في بيت النبوة، وتربى على يدي صاحب الرسالة الإلهية، والدعوة إلى الحياة الأبدية، كان لا محالة عرف حقيقة الدنيا فزهد فيها، وفيما فيها من مظاهر ومغريات، فكان سيد الزاهدين فيها، وإمام الراغبين عنها.
وقد شهد له بذلك رجال ليسوا هم من شيعته، ولا من القائلين بإمامته (بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)).
منهم: الأستاذ الأديب عباس محمود العقاد الكاتب المصري فقال: فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا، أو سيب دولة (2) وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير، وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول: لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم. قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أمية التي تبغض عليا، وتخلق له السيئات، وتخفي ما توافر له من الحسنات: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب (3). وقال سفيان: إن عليا لم يبن آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.
وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارا للخصاص التي يسكنها الفقراء...
وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: دخلت على علي (عليه السلام) فإذا بين يديه