شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٢٤ - الصفحة ٤٢٧
لقد خص لفظ الحديث الانتساب والتعصب بالحسن والحسين دون غيرهما.
وقد جرى السلف والخلف على أن ابن الشريفة لا يكون شريفا إذا لم يكن أبوه شريفا، وإلا لكان ابن شريفة شريفا محرما عليه الصدقة وإن لم يكن أبوه كذلك.
ولقب (الشريف) كان يطلق في الصدر الأول على كل من كان من أهل البيت سواء أكان حسنيا أم حسينيا أو علويا (من ذرية محمد بن الحنفية وغيره من أولاد علي بن أبي طالب) أو جعفريا أو عباسيا، ثم قصر على ذرية الحسن والحسين فقط، واستمر ذلك إلى الآن.
قال الحافظ ابن حجر في " التحفة " في باب الوصايا: الشريف المنتسب من جهة الأب إلى الحسن والحسين، لأن الشريف وإن عم كل رفيع إلا أنه اختص بأولاد فاطمة رضي الله عنها عرفا مطردا على الإطلاق. ا ه.
ومثله (السيد) هو في الأصل من يفوق أقرانه، وخصه العرف بأولاد الحسنين رضي الله عنهما في جميع الجهات الإسلامية من غير نكير.
٣ - عظم الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن ابن عباس في قوله تعالى " ألحقنا بهم ذرياته " أنه قال: ترفع ذرية المؤمن معه في درجته يوم القيامة وإن كانوا دونه في لعمل لتقر به عينه.
وقال صلى الله عليه وسلم: من أحبني وأحب هذين (يعني الحسن والحسين) وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة. وفي رواية: كان معي في الجنة.
ومن ثم كانوا أمانا لأهل الأرض.
وشبههم صلى الله عليه وسلم بسفينة نوح من ركبها نجا، وبباب حطة من دخله غفر له.
وسماهم كالقرآن ثقلين لعظمهما وكبر شأنهما، لأن الثقل محركا يطلق لغة العرب كل شئ نفيس مصون، إذ هما معد العلوم الشرعية والأسرار اللدنية، ولأن العمل بما يتلقى عنهما والعمل بواجب حرمتهما ثقيل، ومنه قوله تعالى " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ".
وقد حث على التمسك بهم، وفيه إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، وإن من تأهل منهم للمراتب العلية والوظائف الدينية مقدم على غيره.
أخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يقبض في كل رأس مئة سنة رجلا من أهل بيتي يعلم أمتي الدين.
وأخرج أبو إسماعيل العروي من طريق حميد بن زنجويه عن أحمد بن حنبل هذا الحديث مع اختلاف بعض ألفاظه.
4 - وجوب محبتهم وتحريم بغضهم وندب توقيرهم وصلتهم، لا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية، وقد أكثر السلف من ذلك.
في البخاري عن الصديق رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من قرابتي.
وقال عمر رضي الله عنه: إن عيادة بني هاشم فريضة وزيارتهم نافلة.
ولما فرض للناس قيل له: إبدأ بنفسك، فأبى وبدأ بالأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصح عن ابن عباس في قوله تعالى " وكان أبوهما صالحا " أنه قال: حفظا بصلاح أبويهما وما ذكر عنهما صلاحا. وروي أنه كان بينهما سبعة أو تسعة آباء.
ومن ثم قال جعفر الصادق رضي الله عنه: احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين.
وكان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يعظم أهل البيت ويتقرب بالاتفاق عليهم، حتى نقل عنه أنه بعث إلى بعض المستترين منهم اثنى عشر ألف درهم دفعة واحدة.
وكان يأمر أصحابه برعاية أحوالهم واقتفاء آثارهم والاهتداء بأنوارهم، وكان إذا جاءه واحد منهم قدمه بين يديه ومشى خلفه.
ولمبالغة إمام الأئمة محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه صرح بأنه من شيعتهم حتى نسبه الخوارج إلى الرفض، فأجاب عن ذلك بقوله:
يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بقاعد خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أني رافضي وقال رضي الله عنه:
قالوا ترفضت، قلت كلا * ما الرفض ديني ولا اعتقادي لكن توليت غير شك * حب إمام وخير هادي إن كان حب الوصي رفضا * فإنني أرفض العباد وقال الإمام المزني: إنك رجل توالي أهل البيت، فلو عملت أبياتا في هذا الباب، فقال:
ما زال كتمانيك حتى كأنني * برد السائلين لأعجم وأكتم ودي مع صفاء مودتي * لأسلم من قول الوشاة وأسلم وقال رضي الله عنه:
إذا نحن فضلنا عليا فإننا * روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته * رميت بنصب عند ذكري للفضل فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما * بحبيهما حتى أوسد في الرمل. اه وأقول: إني أعتقد أن المسئ من أهل البيت مغمور في ضمن محسنهم فاحذر يا أخي أن تمني النفس في بغضهم بما يرمى به بعضهم من الابتداع ومجانبة الاتباع، كما وقع مثلا لحكام الدولة الفاطمية حيث وما هم بعض المؤرخين بكل عظيمة وبرأهم بعضهم الآخر منها. بل لو فرضنا صحة ذلك فهذا لا يخرجهم عن دائرة الذرية ولا النسبة النبوية. والولد العاق لا يمنع من الإرث والانتساب، والشفاعة إنما تكون لذوي الجناية، بل قال بعض الأئمة لا يخرج أحد من أهل البيت حتى يطهر من الدنس المعنوي بمرض ونحوه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تجاوزا عن مسيئهم ".
نعم محل ذلك في غير الحدود وحقوق الآدميين، فمن أتى منهم بما يوجب حدا أقمنا عليه - كالتائب إذا بلغ الحاكم أمره وقد زنى أو سرق مثلا - فإنه يقيم الحد عليه، وإن تحققنا توبته وإنه مغفور له. ا ه.
قال صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذوي الهنات عثراتهم إلا الحدود. وفي رواية " زلاتهم " وفسرهم الشافعي رضي الله عنه بمن لم يعرف بالشر.
فإن قيل: إن ذلك ربما سبب لبعضهم الاغترار وترك العمل اعتمادا على النسب ونحوه.
قلنا: فإن علماءهم والقائمين بأمرهم من أنفسهم أعلم منا بذلك، فإن صاحب كتاب (المشرع الروي) نفسه قال في ختام المقدمة: يتأكد على أهل البيت خاصة وسائر الناس عامة الاعتناء بتحصيل العلوم الشرعية، والتحلي بالأخلاق النبوية، والتخلي عن الصفات الدنية، فإن القبيح إذا صدر من أهل البيت يكون أقبح مما لو كان من غيرهم. ولهذا قال العباس لابنه عبد الله رضي الله عنهما: يا بني إن الكذب ليس بأحد من هذه الأمة أقبح منه بي وبك وبأهل بيتك، يا بني لا يكون شئ مما خلق الله أحب إليك من طاعته ولا أكره إليك من معصيته، فإن الله عز وجل ينفعك بذلك في الدنيا والآخرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد الشمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها (أي أصلها بصلتها).
فإن قيل: هذه الأحاديث تعارض الأحاديث السابقة في فضائلهم.
قلنا: كلا لا تعارضها، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئا لا نفعا ولا ضرا، ولكن الله يملكه نفع أقاربه بل جميع أمته بالشفاعة عامة وخاصة، فهو لا يملك إلا ما يملكه الله سبحانه وتعالى، وإليه يشير الاستثناء في قوله " غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها " وكذا قوله صلى الله عليه وسلم " لا أغني عنكم من الله شيئا " أي بمجرد نفسي من غير ما يكرمني به الله من شفاعة أو مغفرة ونحو ذلك. قال سيدنا علي كرم الله وجهه: الشريف كل من شرفه علمه، والسؤدد لمن اتقى الله ربه، والكريم من كرم عن ذل النار وجهه.
ثم إن صاحب المشرع أيضا كان يحث في نفس الكتاب على ترك الفخر بالآباء والأحساب، وذكر بقوله تعالى " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وبقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة إلا عن أعمالكم، أكرمكم عند الله أتقاكم.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: الناس مستوون كأسنان المشط، ليس لأحد على أحد فضل إلا بتقوى الله عز وجل.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، خيركم عند الله أتقاكم وبقوله عليه الصلاة والسلام: المسلمون أخوة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
وأجاب الإمام الحليمي عن الأحاديث التي وقع فيها الانتساب إلى الآباء:
أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك الفخر، وإنما أراد تعريف منازل أولئك ومراتبهم، فهو من التحدث بالنعمة واعلم أننا إنما نحبهم لله تعالى لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج الترمذي عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب: أن العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا وأنا عنده، فقال: ما أغضبك؟ قال: يا رسول الله مالنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مستبشرة وإذا لقونا بغير ذلك. قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله. ثم قال: يا أيها الناس من آذي عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه. قال: هذا حديث حسن صحيح، قال السيد السمهودي: وأخرجه أحمد والحاكم في صحيحه وغيرهم.