لالقاء خطابه بعد أن أمرهم بالتجمع، ازداد تجمهر الحشود واقترابها إلى حيث يقف النبي مستعدا لأمر مهم. الشمس تستقر في كبد السماء فترسل بأشعتها الحارقة، فتتحول الصحراء في تلك الظهيرة إلى كتلة ملتهبة. الحاضرون يضعون الأردية والملابس فوق الرؤوس وتحت الأقدام علها تقيهم شيئا من الرمضاء الحارقة وأشعة الشمس المتوهجة، وبعضهم يفىء إلى المتاع والرحال يلوذ بظلاله.
مشهد يقتحم الذاكرة ويستعصي على النسيان. رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصعد الموضع الذي صنعوه من الرحال وأقتاب الإبل، وبصوته الندي الشجي مضى يملأ بكلماته الأفئدة والأسماع، ويلقي خطبته على عشرات الألوف من المسلمين الذين أنهوا الحج لتوهم.
بدأ الخطبة، حمد الله وأثنى عليه، ثم راح يشهدهم مرات ومرات على جهده الحثيث في إبلاغ الرسالة، وما بذله لهم من النصيحة في دين الله، وبجهاده العظيم في سبيل الدعوة. فشهدوا له وشهدوا، ورددوا ذلك بصوت واحد. كان هذا كله كالتمهيد، حتى إذا ما تطلعت النفوس والعقول مستفهمة ما وراء هذا الكلام النبوي من مغزى، أزفت اللحظة الموعودة، فما كان من النبي إلا أن أخذ بعضد علي ورفعه حتى بان بياض آباطهما، وصدع يقول: " من كنت