" بالواقع والصحيح ". وهاتان العجلتان اللتان تحملان موكب الفكر الإنساني المنجب. هما شعار مجالس الإمام الصادق كما سلف البيان. بل هما أساس ما استخلصه تلميذه جابر بن حيان. من تجاربه العلمية. وعنه انتقل إلى أوربة المنهج التجريبي: أو منهج " التجربة والاستخلاص " كما يسمى في العصور الحديثة.
ومن نزاهة المنهج في الفقه. كان الإقرار بضعف الإنسان. فليس الاجتهاد مقابلا للحقيقة. وإنما هو أحسن أداة يمكن أن يصل بها المرء إليها.
يقول أبو حنيفة (علمنا هذا رأى فمن جاءنا بأحسن منه كان أولى بالصواب منا). ولما قال الشافعي (الاجتهاد القياس) وإنهما اسمان لمعنى واحد. واستطرد فقعد له القواعد. ليجري علماء أهل السنة في مضماره، صلى الأصوليون من أهل السنة بعده في حلبة الفكر العالمي. منذ القرن الثاني للهجرة، والتاسع للميلاد. فوضعوا القواعد التي لم يبدأ في تعرفها الأوربيون إلا بعد ثمانية قرون تحت عناوين اطراد العلة. وأنها إذا توفرت ثبت الحكم. أو قانون اطراد الحوادث. لوجود " نظام " في الكون. أو تناسق. تخضع له الأشياء طردا وعكسا، باطراد أسبابها وملابساتها فيها. وهذا ما قرره الأصوليون المسلمون عند تماثل العلل لاستنباط الأحكام.
غير أن الأصوليين المسلمين فاقوا في تمحيصهم " جون ستيوارت مل " في أبحاثه. إذا تعمقوا في مسالك العلة، ودققوا في الاستقراء والاستنباط، مع الورع الكامل والنزاهة الفكرية المثلى. فكان عندهم لكل ركن من أركان " القياس " أبحاثه، وضمانات صحته، باتساع الاختبار وامتحان الاستخلاص.
وإيجاب أن تجمع الأصل " المقيس عليه " " والفرع " " المقيس " " علة "، لتنتج ثمرة القياس وهي " الحكم ".
وأولى الأصوليون العلة وتخريجها اهتماما مقطوع النظير. فشرطوا لها مسالك نقلية من نص أو إجماع، أو عقلية من تحقيق المناط بوجود العلة، وتنقيح المناط بحذف ما لا يدخل في الاعتبار، وبطرائق السبر والتقسيم والطرد.