لا واحد من هؤلاء يستحق اسم الإنسانية إلا هذا الشيخ الجالس - وأشار إلى جعفر بن محمد - فقام ابن أبي العوجاء إلى الشيخ. وتحدث معه ثم رجع إلى صاحبه وقال: ما هذا ببشر. إن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا، أو يتروح إذا شاء باطنا، فهو هذا.. ظل يحصى لي قدرة الله التي في نفسي. والتي لم أستطع رفضها، حتى ظننت أن الله قد نزل بيني وبينه.
ونزول الله بين الإمام وبين ملحد، باعتراف الملحد، آية باقتدار المنهج على بلوغ غرضه، وقدرة مجادل جمع الآيات الربانية حججا بين يدي منكر أخذته حجة الأمر الواقع فأبلس.
فإذا تصدى الإمام لأصحاب الأغلوطات أزرى بالسفسطات. وبدههم. - كدأبه - " بالواقع ". فبهتتهم - كأن لم يشهدوها قبل - حقائق الأمر الواقع.
طلب واحد من تلاميذه بيانا عن قول أبى شاكر الديصاني - رئيس الطائفة الديصانية - وهي طائفة ملحدة تنعم بحرية العقيدة في بلدان الإسلام - إن في القرآن ما يدل على أن الإله ليس واحدا. ففيه (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) فأجاب الإمام بقوله: قل له ما اسمك في الكوفة فيقول فلان. فقل له ما اسمك في البصرة فيقول فلان. فقل له فكذلك:
ربنا في السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي كل مكان إله.
* * * وفي كتاب الإهليلجة المروى عن طريق المفضل بن عمر يستعمل الجدل العلمي، في تنبيه الشكاك على أنهم في بدابة الطريق نحو المعرفة يقول (.. أخبرني هل رقيت إلى الجهات كلها وبلغت منتهاها؟.. فهل رقيت إلى السماء التي ترى أو انحدرت إلى الأرض السفلى فجلت في أقطارها.. فما يدريك لعل الذي أنكره قلبك هو بعض ما لم تدركه حواسك ولم يحط به علمك.. أما إذ خرجت من الإنكار إلى منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة).
فلنلاحظ أنه يجادل الرجل بأن يرتفع من الإدراك المادي إلى حيث يفكر. وأنه يرفع المفكر إلى حيث يستيقن. فيطالب الشاك بمزيد من التجربة المحسوبة الملموسة. ليصل من الشك إلى المعرفة. وهي مراحل العلم الذي يصل إليه الناس بوسائل مأمونة ومجربة.