إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٨ - الصفحة ٢٠٤
المقدس، والمعراج كان في ليلة واحدة من غير نوم، ويؤيد ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر به، كذبه المشركون، وارتد جماعة ممن أسلم! ولو كان مناما لم يستنكر لمن هو بمكة، أن يرى نفسه بيت المقدس، وقد يرى الإنسان أعظم من ذلك، فيحدث به، فلا ينكر عليه.
وقد اختلف الصحابة [رضي الله عنهم] في رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه (1)، [سبحانه و] تعالى، في ليلة الإسراء، حتى قالت عائشة رضي الله

(1) قال القاضي عياض: وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه جل وعز، فاختلف السلف فيها، فأنكرته عائشة رضي الله عنها: حدثنا أبو الحسين سراج بن عبد الملك الحافظ بقراءتي عليه، قال: حدثني أبي وأبو عبد الله ابن عتاب الفقيه، قالا: حدثنا القاضي يونس بن مغيث، حدثنا أبو الفضل الصقلي، حدثنا ثابت ابن قاسم، عن أبيه وجده، قالا: حدثنا عبد الله بن علي، حدثنا محمود بن أدم، حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، أنه قال لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت - ثلاث من حدثك بهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) وذكر الحديث.
وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها، وهو المشهور عن ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة أنه قال: إنما رأى جبريل، واختلف عنه، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه رآه بعينه، وروى عطاء عنه أنه رآه بقلبه، وعن أبي العالية عنه: رآه بفؤاده مرتين، وذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله:
هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم، والأشهر عنه أنه رأى ربه بعينه، روى ذلك عنه من طرق وقال: إن الله تعالى أختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالرؤية، وحجته قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى) [النجم: 11 - 31].
قال الماوردي: قيل: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين.
وحكى أبو الفتح الرازي، وأبو الليث السمرقندي الحكاية عن كعب، وروى عبد الله بن الحارث قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس، أما نحن بنو هاشم فنقول: إن محمدا قد رأى ربه مرتين، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، وقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلمه موسى، ورآه محمد بقلبه.
وروى شريك عن أبي ذر رضي الله عنه في تفسير الآية، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه.
وحكى السمرقندي عن محمد بن كعب القرظي، وربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: هل رأيت ربك؟ قال: رأيته بفؤادي ولم أره بعيني.
وروى مالك بن يخامر، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت ربي، وذكر كلمة، فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟... الحديث.
وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه، وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة.
وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود.
وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال نعم. وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه، حتى انقطع نفسه - يعني نفس أحمد.
وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل: رآه بقلبه وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار.
وقال سعيد بن جبير: لا أقول رآه، ولا لم يره، وقد اختلف في تأويل الآية، عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن مسعود، فحكى عن ابن عباس وعكرمة: رآه بقلبه، وعن الحسن وابن مسعود: رأى جبريل، وحكى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: أنه قال: رآه.
وعن ابن عطاء في قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)، قال: شرح صدره للرؤية، وشرح صدر موسى للكلام، وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه وجماعة من أصحابه، أنه رأى الله تعالى ببصره وعيني رأسه، وقال: كل آية أوتيها نبي من الأنبياء عليهم السلام، فقد أوتي مثلها نبينا صلى الله عليه وسلم، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية، ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز أن يكون.
قال القاضي أبو الفضل - وفقه الله - والحق الذي لا امتراء فيه، أن رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، وليس في العقل ما يحيلها، والدليل على جوازه في الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا من علمه، فقال له الله تعالى: (لن تراني) أي لن تطيق، ولا تحتمل رؤيتي، ثم ضرب له مثلا مما هو أقوى من بنية موسى وأثبت، وهو الجبل، وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا، بل فيه جوازها على الجملة، وليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها، ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة، ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) لاختلاف التأويلات في الآية.
وليس يقتضي قول من قال: في الدنيا الاستحالة، وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية وعدم استحالتها على الجملة.
وقد قيل: لا تدركه أبصار الكفار، وقيل: (لا تدركه الأبصار)، لا تحيط به، وهو قول ابن عباس، وقد قيل: (لا تدركه الأبصار) وإنما يدركه المبصرون.
وكل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ولا استحالتها، وكذلك لا حجة لهم بقوله تعالى:
(ولن تراني)، وقوله تعالى: (تبت إليك) لما قدمناه، ولأنها ليست على العموم، ولأن من قال:
معناها لن تراني في الدنيا إنما هو تأويل.
وأيضا فليس فيه نص الامتناع، وإنما جاءت في حق موسى، وحيث تتطرق التأويلات، وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع إليه سبيل.
وقوله: (تبت إليك) أي من سؤالي ما لم تقدره لي، وقد قال أبو بكر الهدلي في قوله: (لن تراني) أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا، وأنه من نظر إلي مات...
وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه أن رؤيته تعالى في الدنيا ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة عرضا للآفات والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية، فإذا كان في الآخرة، وركبوا تركيبا آخر، ورزقوا قوى ثابتة باقية، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم، قووا بها على الرؤية.
وقد رأيت نحو هذا لملك بن أنس رحمه الله، قال لم ير في الدنيا لأنه باق، لا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة، ورزقوا أبصارا باقيو رؤي الباقي بالباقي.
وهذا كلام مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة، إلا من حديث ضعف القدرة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده، وأقدره على حمل أعباء الرؤية، لم تمتنع في حقه.
وقد تقدم ما ذكر في قوة بصر موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتعوذ إدراكهما بقوة إلهية منحاها لإدراك ما أدركاه، ورؤية ما رأياه، والله تعالى أعلم. (الشفا) 1 / 121 - 123 مختصرا.
(٢٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 199 200 201 202 203 204 206 207 208 209 210 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ليس فيما حرم شفاء 3
2 السعوط 4
3 ذات لجنب 6
4 الكحل 9
5 الحبة السوداء 12
6 السنا 14
7 التلبينة والحساء 16
8 اغتسال المريض 19
9 اجتناب المجذوم 24
10 وأما عرق النسا 31
11 وأما كثرة أمراضه صلى الله عليه وسلم 34
12 الحناء 35
13 الذريرة 38
14 وأما أنه صلى الله عليه وسلم سحر 40
15 وأما أنه صلى الله عليه وسلم سم 45
16 وأما أنه صلى الله عليه وسلم رقى 48
17 وأما أنه صلى الله عليه وسلم احتجم 56
18 وأما الكي والسعوط 62
19 وأما الحناء 64
20 وأما السفرجل 64
21 فصل في ذكر حركات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكونه 66
22 وأما عمله صلى الله عليه وسلم في بيته 66
23 وأما ما يقوله إذا دخل بيته صلى الله عليه وسلم 67
24 وأما ما يقوله إذا خرج من بيته صلى الله عليه وسلم 68
25 وأما مشيه صلى الله عليه وسلم 72
26 وأما نومه صلى الله عليه وسلم 80
27 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ 89
28 وأما أن قلبه صلى الله عليه وسلم لا ينام 90
29 وأما مناماته عليه السلام 92
30 فصل في ذكر صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة 139
31 ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن العوم في الماء صلى الله عليه وسلم 143
32 ذكر شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعث 145
33 فصل في ذكر سفره صلى الله عليه وسلم 150
34 أما يوم سفره صلى الله عليه وسلم 150
35 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا 153
36 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا علا على شئ 158
37 وأما كيف سيره صلى الله عليه وسلم 161
38 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم ويعمله إذا نزل منزلا 163
39 وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم في السحر 164
40 ذكر ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأى قرية 165
41 ذكر تنفله صلى الله عليه وسلم على الراحلة 166
42 وأما ما يقول إذا رجع من سفره صلى الله عليه وسلم 167
43 وأما ما يصنع إذا قدم من سفر صلى الله عليه وسلم 169
44 وأما كونه لا يطرق أهله ليلا 171
45 فصل في الأماكن التي حلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى الرحلة النبوية 174
46 وأما سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه 174
47 وأما سفره صلى الله عليه وسلم في تجارة خديجة رضى الله تعالى عنها 186
48 وأما الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى السماوات العلى ورؤيته الآيات ربه الكبرى 190
49 فصل جامع في ذكر حديث الإسراء والمعراج 214
50 فأما رواية حديث الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم 214
51 فصل جامع في معراج النبي صلى الله عليه وسلم 283
52 فصل في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لله عز وجل ليلة الإسراء 302
53 فصل في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف 305
54 فصل في ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عكاظ، ومجنة وذى المجاز 309
55 فصل في ذكر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 316
56 فصل في ذكر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم 330
57 غزوة الأبواء 332
58 غزوة بواط 334
59 غزوة بدر الأولى 336
60 غزوة ذي العشيرة 337
61 غزوة بدر الكبرى 339
62 غزوة بني قينقاع 346
63 غزوة السويق 348
64 غزوة قراره الكدر 350
65 غزوة ذي أمر، وهي غزوة غطفان 352
66 غزوة نجران 354
67 غزوة أحد 355
68 غزوة حمراء الأسد 357
69 غزوة بني النضير 359
70 غزوة بدر الموعد 362
71 غزوة ذات الرقاع 363
72 غزوة دومة الجندل 367
73 غزوة المريسيع 369
74 غزوة الخندق 372
75 غزوة بني قريظة 376
76 غزوة بني لحيان 379
77 غزوة الغابة 380
78 غزوة خيبر 382
79 عزوة الفتح 384
80 غزوة حنين 388
81 غزوة تبوك 391