وقال القاضي عياض: الحق والذي عليه أكثر الناس، ومعظم السلف، وعامة المتأخرين من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين: أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم والآثار تدل عليه لمن طالعها، وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل، ولا استحالة في حملها عليه، فيحتاج إلى تأويل (1).
(١) قال القاضي عياض: ثم اختلف السلف والعلماء، هل كان إسراؤه صلى الله عليه وسلم بروحه أو جسده؟ على ثلاث مقالات: فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي، وإلى هذا ذهب معاوية، وحكي عن الحسن، والمشهور عنه خلافا، وإليه أشار محمد بن إسحاق وحجتهم قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن).
وما حكوا عن عائشة رضي الله عنها: (ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم)، وقول أنس: (وهو نائم في المسجد الحرام) وذكر القصة، ثم قال في آخرها: (فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام). وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفي اليقظة، وهذا هو الحق، وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبي هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبي حبة البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد والحسن وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.
وهو دليل قول عائشة، وهو قول الطبري، وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين، وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، والمفسرين.
وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبي محمد صلى الله عليه وسلم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه، قال هؤلاء: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
ثم اختلفت هذه الفرقتان، هل صلى في بيت المقدس أم لا؟ ففي حديث أنس وغيره ما تقدم من صلاته فيه، وأنكر ذلك حذيفة بن اليمان، وقال: ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا.
قال القاضي - وفقه الله - والحق من هذا والصحيح إن شاء الله: أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة.
وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل:
(بعده)، وقوله تعالى: (ما زاغ البصر وما طغى)، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار، ولا كذبوه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته، إلى ما ذكر في الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء بيت المقدس في رواية أنس رضي الله عنه، أو في السماء على ما روى غيره، وذكر مجئ جبريل له بالبراق، وخبر المعراج، واستفتاح السماء فيقال: ومن معك، فيقول: محمد، ولقائه بالأنبياء فيها، وخبرهم معه وترحيبهم به، وشأنه في فرض الصلاة، ومراجعته مع موسى في ذلك.
وفي بعض هذه الأخبار: فأخذ - يعني جبريل - بيدي فعرج بي إلى السماء... إلى قوله: ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره. قال ابن عباس رضي الله عنه: هي رؤيا عين رآها صلى الله عليه وسلم لا رؤيا منام (الشفا): 1 / 113 - 115 مختصرا.