فانظر ما أبلغ هذا المثال النبوي وأبينه لما نحن بصدده، فهذه عين الماء الذي نزل من السماء واحدة، وأثره في الأرض مختلف على قدر ما أعطاها الحكيم الخبير سبحانه من الاستعداد، وهيأ فيها من القبول حتى قبلت (كل) (١) قطعة منها الماء بحسب استعدادها، فأنبتت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات التي يفضل بعضها على بعض في
الأكل، وقبلت قطعة أخرى من الأرض ذلك الماء بعينه، فأنبتت بحسب استعدادها كلأ وعشبا ترعاه الأنعام، وفقدت قطعة أخرى هذا الاستعداد المهيئ لقبول الإنبات، فأمسكت الماء ولم تغيره عن أصله لطيبها حتى استقى منه الناس فشربوا وحملوا وسقوا أنعامهم، وكانت قطعة أخرى من الأرض لم يجعل الله تعالى فيها من الاستعداد لقبول الإنبات شيئا، وسلبها مع ذلك الطيب والاعتدال، حتى انحرفت عنه فلم تخرج نبتا ولا أمسكت ماءا، بل أحالته لخبثها أجاجا وملحا لا ينتفع به، فكما اختلفت الأرض في الاستعداد واختلفت في القبول، وهكذا نفوس الناس لما اختلفت في الاستعداد لقبول الخير والهدى، اختلفت في قبوله، وعين الهدى واحدة، ولكن أثره في نفوس الناس مختلف، فواحد قبل هدى الله الذي جاء به نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم حال ما جاء به من غير أن يدعى إليه ولا طلب منه دليلا عليه
كخديجة بنت خويلد، وأبي بكر
الصديق، وعلي بن أبي طالب، وزيد الحب، رضي الله عنهم، وذلك بحسب قوة استعدادهم لقبول الهدى، وقد عبر عن هذا الاستعداد في اصطلاح
القرآن بالهداية، ويقال له التوفيق أيضا، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
﴿حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان﴾ (٢)، وقال تعالى:
﴿والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾ (3)، أي والذين اهتدوا يعني قبلوا الهداية العامة الإيمانية بقابليتهم الأصيلة، وأقبلوا بكلية مواطنهم إليها، زادهم الله هدى بما أدركهم من عناية مدد الحضرة الرحمانية بالهداية الخاصة من مقام الإحسان، (وآتاهم تقواهم) يعني أعطاهم تقوى نفوسهم بأن جعلوا حكم توحيدهم الباطن في قلوبهم وقاية تصون أنفسهم عن التلبس من أحشاء الانحرافات المبعدة لهم عن جناب