(١) قال المقريزي - رحمه الله - بعد أن ساق هذا الحديث: " اللفظ لمسلم "، ولفظ مسلم: " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو عامر الأشعري، ومحمد بن العلاء (واللفظ لأبي عامر)، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن بريد عن أبي بردة، عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مثل ما بعثني به الله عز وجل من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها، وسقوا، ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءا، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم، وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ".
(مسلم بشرح النووي): ١٦ / ٥١ - ٥٣، كأب الفضائل، باب (5)، بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، حديث رقم (2282).
أما الغيث فهو المطر، وأما العشب والكلأ والحشيش، فكلها أسماء للنبات كلن الحشيش مختص باليابس والرطب. وقال الخطابي وابن فارس: الكلأ يقع على اليابس، وهذا شاذ ضعيف. وأما الأجادب - فبالجيم والدال المهملة - وهي الأرض التي تنبت كلأ. وقال الخطابي هي الأرض التي تمسك الماء، فلا يسرع فيه النضوب.
قال ابن بطال، وصاحب المطالع، وآخرون: هو جمع جدب، على غير قياس، كما قالوا في حسن:
جمعه محاسن، والقياس: أن محاسن جمع محسن، وكذا قالوا: مشابه جمع شبه، وقياسه: أن يكون جمع مشبه، قال الخطابي: وقال بعضهم: أحادب - بالحاء المهملة والدال - قال: وليس بشئ. قال:
وقال بعضهم: أجارد - بالجيم والراء والدال -. قال: وهو صحيح المعنى.
قال الأصمعي: الأجارد من الأرض ما لا ينبت الكلأ، معناه: أنها جرداء هزرة، لا يسترها النبات، قال: وقال بعضهم: إنما هي أخاذات - بالخاء والذال المعجمتين وبالألف - وهو جمع أخاذة، وهي الغدير الذي يمسك الماء. وذكر صاحب (المطالع) هذه الأوجه التي ذكرها الخطابي، فجعلها روايات منقولة.
وقال القاضي في (الشرح): لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره، إلا بالدال المهملة من الجدب، الذي هو ضد الخصب. قال: وعليه شرح الشارحون. وأما القيعان فبكسر القاف - جمع القاع، وهو الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث، كما شرح به صلى الله عليه وسلم، ويجمع أيضا على أقوع، وأقواع، والقيعة - بكسر القاف - بمعنى القاع. قال الأصمعي: قاعة الدار: ساحتها.
وأما الفقه في اللغة فهو الفهم. يقال منه: فقه - بكسر القاف - يفقه فقها، بفتحها كفرح يفرح فرحا، وقيل: المصدر فقها - بإسكان القاف - وأما الفقه الشرعي، فقال صاحب (العين)، والهروي، وغيرهما: يقال منه فقه - بضم القاف - وقال ابن دريد: بكسرها كالأول.
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " فقه في دين الله ". هذا الثاني، فيكون مضموم القاف على المشهور، وعلى قول ابن دريد بكسرها، وقد روى بالوجهين، والمشهور الضم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء "، فهكذا هو في جميع نسخ مسلم " طائفة طيبة ". ووقع في البخاري: " فكانت منه نقية قبلت الماء " - بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مشددة - وهو بمعنى طيبة، هذا هو المشهور في روايات البخاري. ورواه الخطابي وغيره: " ثغبة " - بالثاء المثلثة والغين المعجمة والباء الموحدة - قال الخطابي: وهو مستنقع الماء في الجبال والصخور، وهو الثغب أيضا، وجمعه ثغبان. قال القاضي وصاحب (المطالع): هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف، وإحالة للمعنى، لأنه إنما جعلت هذه الطائفة الأولى مثلا لما ينبت، والثغبة لا تنبت.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " وسقوا " فقال أهل اللغة: سقى وأسقى: بمعنى لغتان، وقيل: سقاه: ناوله ليشرب، وأسقاه: جعل له سقيا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " ورعوا " فهو بالراء من الرعى، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري " وزرعوا "، وكلاهما صحيح، والله تعالى أعلم.
أما معاني الحديث ومقصوده: فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:
فالنوع الأول، من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيى بعد أن كان ميتا وينبت الكلأ، فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم، فيحفظه، فيحيا قلبه، ويعمل به، ويعلمه غيره، فينفع وينفع.
والنوع الثاني، من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل، يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج، متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث، من الأرض السباخ، التي لا تنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم، والله تعالى أعلم. وفي هذا الحديث أنواع من العلم، منها:
(1) ضرب الأمثال.
(2) فضل العلم والتعليم.
(3) شدة الحث عليهما.
(4) ذم الإعراض من العلم.
والله تعالى أعلم. (المرجع السابق).