بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى عليه وسلم بفرعون هذه الأمة، وهو أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر. أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته.
وأما ما تحمل له السهيلي، من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى، ودعواهم أنه أحد الأقانيم [الثلاثة] فهو محال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل، ولم يأخذ عمن بدل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى، والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف.
نعم في (دلائل النبوة لأبي نعيم) بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم، فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة ناموس عيسى، وتارة ناموس موسى عليهما السلام، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: " يا ليتني فيها جذع "، كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين: " يا ليتني فيها جذعا، بالنصب على أنه خبر كان المقدرة. قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى: (انتهوا خيرا لكم) [الآية ١٧١ / النساء]، وقال ابن بري: التقدير يا ليتني جعلت فيها جذعا، وقيل: النصب على الحال إذا جعلت " فيها " خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قال السهيلي. وضمير " فيها " يعود على أيام الدعوة، والجذع - بفتح الجيم، والذال المعجمة - هو الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا، ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى.
قوله: " إذ يخرجك "، قال ابن مالك: فيه استعمال " إذ " في المستقبل كإذا، وهو صحيح وغفل عنه كثير من النجاة، وهو كقوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) [الآية ٣٩ / مريم]، هكذا رواه ابن مالك، وأقره عليه غير واحد، وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في (التعبير): " حين يخرجك قومك ". وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، وهو مستحيل عادة، ويظهر لي - والكلام للحافظ ابن حجر - أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبر به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجئ به.
قوله: " أو مخرجي هم "؟ - بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها -، فهم: مبتدأ مؤخر، ومخرجي: خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه، لأن لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها.
قوله: " إلا عودي "، وفي رواية يونس في (التفسير): " إلا أوذي "، فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم، فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
قوله: " إن يدركني قومك "، إن: شرطية والذي بعدها مجزوم، زاد في رواية يونس في (التفسير): " حيا "، ولابن إسحاق: " إن أدركت ذلك اليوم " يعني الإخراج.
قوله: " مؤزرا " - بهمزة - أي قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة، أنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر، وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته.
قال الأخطل:
* قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * قوله: " ثم لم ينشب " - بفتح الشين المعجمة - أي لم يلبث، وأصل النشوب التعلق، أي لم يتعلق بشئ من الأمور حتى مات. وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر: فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: " وفتر الوحي " ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى عمله، لا إلى ما هو الواقع، وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى البخاري في كتاب (التعبير) من طريق معمر ما يدل على ذلك.
[فائدة]: وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكي البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين، وهي ما بين نزول (اقرأ) و (يا أيها المدثر)، عدم مجئ جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط، (فتح الباري): 1 / 33 - 36، كتاب بدء الوحي حديث رقم (3).