أبدا (1)، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة - أخي أبيها - وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن عم -
(١) قوله: " فوالله لا يخزيك الله أبدا " لغير أبي ذر بضم أوله، والخاء المعجمة، والزاي المكسورة، ثم الياء الساكنة، من الخزي، ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي، وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما ما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو بمن لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفه به و " الكل " بفتح الكاف هو من لا يستقل بأمره، كما قال تعالى: (وهو كل على مولاه) [الآية ٧٦ / النحل].
و " تكسب المعدوم ": في رواية الكشمهيني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب:
المعدم بلا واو، أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. قال الحافظ ابن حجر: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة، فكأنها قالت:
إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا ورغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه. وقال قاسم ابن ثابت في (الدلائل): قوله يكسب معناه ما يعدمه غيره ويعجز عنه يصيبه ويكسبه. قال أعرابي يمدح إنسانا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم.
ولغير الكشمهيني " وتكسب " بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح - قال الحافظ ابن حجر: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت مالا وأكسبته بمعنى. وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب ما لا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظا في التجارة، وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات.
وقولها: " وتعين على نوائب الحق "، كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفي رواية (البخاري في التفسير)، من طريق يونس عن الزهري من الزيادة: " وتصدق الحديث "، وهي من أشرف الخصال. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: " وتؤدي الأمانة ".
وفي هذه القصة من الفوائد:
* استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه.
* وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.
قوله: " فانطلقت به "، أي مضت معه، فالباء للمصاحبة، وورقة بفتح الراء، وقوله: " ابن عم خديجة "، هو بنصب " ابن "، ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة، أو صفة، أو بيان، ولا يجوز جره، فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس ذلك، ولا يجوز كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.
قوله: " تنصر "، أي صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن نفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.
قوله: " فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية "، وفي رواية يونس ومعمر:
ويكتب من الإنجيل بالعربية، ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربي، والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني، كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين. ووقع لبعض الشراح هنا ضبط فلا يعرج عليه.
وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه، لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها: " أناجيلها صدورها ". قولها: " يا ابن عم "، هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم " يا عم " وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعد، ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي، لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه، وقالت في حق النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع من ابن أخيك، لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته.
أو قالته على سبيل التوقير لسنه.
وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: " اسمع من ابن أخيك " أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أبلغ في التعظيم.
قوله: " ماذا ترى "؟ فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في (دلائل النبوة) لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها فأخبرته بالذي رأى.
قوله: " هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ". وللكشمهيني: " أنزل الله "، وفي كتاب التفسير " أنزل " على البناء للمفعول، وأشار بقوله: " هذا " إلى الملك الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره. والناموس: صاحب السر كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء.
وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، والأول الصحيح الذي عليه الجمهور، وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب. والمراد بالناموس هنا جبريل عليه السلام. وقوله: " على موسى " ولم يقل على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم. أو لأن موسى عليه السلام