كلا (1)، فأبشر، فوالله لا يخزيك الله......................
(١) " كلا "، معناها في العربية على ثلاثة أوجه: حرف ردع وزجر، وبمعنى حقا، وبمعنى إي:
فالأول كما في قوله تعالى: (كلا إنها كلمة هو قائلها)، إشارة إلى قول القائل: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت) [الآية ١٠٠ / المؤمنون]، أي انته عن هذه المقالة، فلا سبيل إلى الرجوع.
والثاني: نحو (كلا إن الإنسان ليطغى) [الآية ٦ / العلق]، أي حقا، لم يتقدم على ذلك ما يزجر عنه، كذا قال قوم، وقد اعترض على ذلك بأن حقا تفتح " أن " بعدها، وكذلك أما تأتي بمعناها، فكذا ينبغي في " كلا "، والأولى أن تفسر " كلا " في الآية بمعنى ألا التي يستفتح بها الكلام، وتلك تكسر ما بعدها " إن "، نحو: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم)، [الآية ٦٣ / يونس]، والثالث: قبل القسم، نحو (كلا والقمر) [الآية ٣٢ / المدثر]، معناه إي والقمر، كذا قال النضر بن شميل، وتبعه جماعة منهم ابن مالك، ولها معنى رابع، تكون بمعنى ألا. (شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب): ١٥.
وقال العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي: وهي " أي كلا " عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر نحاة البصرة، حرف معناه الردع والزجر، لا معنى له سواه، حتى إنهم يجيزون الوقف عليها أبدا والابتداء بما بعدها، حتى قال بعضهم: إذا سمعت " كلا " في سورة، فاحكم بأنها مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العتو كان بها. وفيه نظر، لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتو بها لا عن غلبته.
ثم إنه لا يظهر معنى الزجر في " كلا " المسبوقة بنحو (في أي صورة ما شاء ركبك) [الآية ٨ / الانفطار]، (يوم يقوم الناس لرب العالمين) [الآية ٦ / المطففين]، (ثم إن علينا بيانه) [الآية ٣٠ / القيامة].
وقول من قال: فيه ردع عن ترك الإيمان بالتصوير، في أي صورة ما شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن، فيه تعسف ظاهر. ثم إن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق، ثم نزل: (كلا إن الإنسان ليطغى) [الآية 6 / العلق]، فجاءت في افتتاح الكلام، والوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا، كلها في النصف الأخير.
ورأى الكسائي وجماعة أن معنى الردع ليس مستمرا فيها، فزادوا معنى ثانيا يصح عليه أن يوقف دونها، ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال: فقيل: بمعنى حقا، وقيل بمعنى ألا الاستفتاحية، وقيل: حرف جواب بمنزلة أي ونعم، وحملوا عليه: (كلا والقمر) [الآية 32 / المدثر]، فقالوا: معناه إي والقمر، وهذا المعنى لا يتأتي في آيتي المؤمنين والشعراء: (كلا إنها كلمة هو قائلها) [الآية 100 / المؤمنون]، (كلا إن معي ربي) [الآية 62 / الشعراء].
وقول من قال: بمعنى حقا، لا يتأتي في نحو: (إن كتاب الفجار)، (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [الآيتان 7، 15 المطففين]، لأن " إن " تكسر بعد ألا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقا، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف بأسم.
وإذا صلح الموضع للردع ولغيره، جاز الوقف عليها، والابتداء بها، على اختلاف التقديرين.
والأرجح حملها على الردع، لأنه الغالب عليها، وذلك نحو: (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول) [الآيتان 78، 79 مريم].
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا لا سيكفرون بعبادتهم) [الآيتان 81، 82] / مريم].
وقد يتعين للردع أو الاستفهام نحو: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها) [الآية 100 / المؤمنون]، لأنها لو كانت بمعنى حقا لما كسرت همزة إن، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع، لأنها بعد الطلب، كما يقال: أكرم فلانا، فتقول: نعم. ونحو:
(قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين) [الآيتان 61، 62 / الشعراء]، وذلك لكسر إن، ولأن نعم بعد الخبر للتصديق.
وقد يمتنع كونها للزجر والردع، نحو: (وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر) [الآيتان 31، 32 / المدثر]، إذ ليس قبلها ما يصح رده.
وقرئ: (كلا سيكفرون بعبادتهم) [الآية 82 / مريم] بالتنوين، إما على أنه مصدر كل إذا أعيا، أي كلوا في دعواهم وانقطعوا، أو من الكل وهو الثقل، أي حملوا كلا. وجوز الزمخشري كونه حرف الردع نون كما في (سلاسلا) [الآية 4 / الإنسان]، ورد عليه بأن (سلاسلا) اسم أصله التنوين فرد إلى أصله، ويصحح تأويل الزمخشري قراءة من قرأ (والليل إذا يسر) [الآية 4 / الفجر] إذا الفعل ليس أصله التنوين.
وقال ثعلب: كلا مركب من كاف التشبيه ولا النافية، وإنما شددت لامها لتقوية المعنى، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين، وعند غيره بسيطة كما ذكرنا، والله تعالى أعلم. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز): 4 / 381 - 383.