إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ١٢٥
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن بريد عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن (الحميري) (1) حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ما يقول (هؤلاء) (2) في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، كان أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، (قال:
فإذا) (3) لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به

(١) في (خ): " الحميدي " والتصويب من رواية مسلم.
(٢) زيادة من رواية مسلم.
(٣) في (خ): " فقال إذا " والتصويب من رواية مسلم.
قوله: " فاكتنفته أنا وصاحبي "، يعني صرنا في ناحيتيه، ثم فسره فقال: أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، وكنفا الطائر جناحاه، وفي هذا تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم، وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به.
قوله: " فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي " معناه يسكت ويفوضه إلي لإقدامي وجرأتي وبسطة لساني، فقد جاء عنه في رواية " لأني كنت أبسط لسانا ".
قوله: " ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم "، هو بتقديم القاف على الفاء، ومعناه يطلبونه ويتتبعونه، هذا هو المشهور، وقيل معناه يجمعونه، رواه بعض شيوخ المغاربة من طريق ابن ماهان " يتفقرون " - بتقديم الفاء - وهو صحيح أيضا، معناه يبحثون عن غامضة، ويستخرجون خفية. وروى في غير مسلم: " يتقفون " بتقديم القاف، وحذف الراء، وهو صحيح أيضا، ومعناه يتتبعون.
قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: " يتقعرون " بالعين، وفسره بأنهم يطلبون قعره، أي غامضه وخفيه. ومنه تقعر في كلامه إذا جاء بالغريب منه، وفي رواية أبي يعلي الموصلي: " يتفقهون " بزيادة الهاء، وهو ظاهر، قوله: " وذكر من شأنهم ". هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر، والظاهر أنه من ابن بريدة الراوي، عن يحيى بن يعمر، وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء، وصفهم بالفضيلة في العلم، والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به.
قوله: " يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف "، هو بضم الهمزة والنون، أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل، وهذا القول قول غلاتهم، وليس قول جميع القدرية، وكذب قائله وضل وافترى. عافانا الله وسائر المسلمين.
قوله: " قال - يعني ابن عمر رضي الله عنهما -: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر "، هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما، ظاهر في تكفير القدرية.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا في القدرية الأول، الذين نفوا تقدم علم الله تعالى بالكائنات، قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة.
قال غيره: ويجوز أنه لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة، فيكون من قبيل كفران النعم، إلا أن قوله: ما قبله الله منه، ظاهر في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر، إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل عمله لمعصيته وإن كان صحيحا، كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة، غير محوجة إلى القضاء عند جمهور العلماء، بل بإجماع السلف، وهي غير مقبولة، فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا. والله تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي): ١ / ٢٥٩، كتاب الإيمان، حديث رقم (1).
(١٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 120 121 122 123 124 125 126 127 129 130 131 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ذكر مجيء الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالات ربه تعالى 3
2 ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم 3
3 ذكر الاختلاف في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى كان وأين وقع؟ 32
4 ذكر مجيء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي خلقه الله عليها 39
5 ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 45
6 ذكر تعليم جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة 53
7 وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها 60
8 ذكر الجهة التي كان صلى الله عليه وسلم يستقبلها في صلاته 81
9 ذكر من قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة 94
10 فصل في ذكر الفضائل التي خص الله تعالى بها نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على جميع الأنبياء 95
11 فأما أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين 96
12 وأما مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة، ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه 105
13 وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قرفه به المكذبون، ونهى الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه 108
14 وأما دفع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرفه المكذبون له 111
15 وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطأ ولا زلة 112
16 وأما أخذ الله تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه إن أدركوه 116
17 وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى الله عليه وسلم 122
18 وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتى به 132
19 وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم 145
20 وأما أمر الكافة بالتأسي به قولا وفعلا 154
21 وأما اقتران اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى 167
22 وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام 169
23 ذكر التنويه بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام 187
24 وأما شرف أصله، وتكريم حسبه، وطيب مولده صلى الله عليه وسلم 204
25 وأما أن أسماءه خير الأسماء 216
26 وأما قسم الله تعالى بحياته صلى الله عليه وسلم 221
27 وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم 224
28 فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما وسلامه 241
29 وأما اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر 263
30 ذكر المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم 288
31 تنبيه وإرشاد 292
32 إيضاح وتبيان 295
33 وأما حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر 297
34 وأما كثرة أتباعه صلى الله عليه وسلم 309
35 وأما الخمس التي أعطيها صلى الله عليه وسلم 311
36 وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزان الأرض 315
37 وأما تأييده بقتال الملائكة معه 319
38 وأما أنه خاتم الأنبياء 334
39 وأما أن أمته خير الأمم 338
40 وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته صلى الله عليه وسلم 345
41 ثم جاءني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم 378
42 وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 379
43 ومن إعلامه في التوراة 385
44 ومن إعلامه في التوراة أيضا 386
45 ومن ذكر شعيا له 387
46 ومن ذكر شعيا له 388
47 وفي حكاية يوحنا عن المسيح 390
48 وفي إنجيل متى 391
49 وذكر شعيا طريق مكة فقال: 394
50 وأما سماع الأخبار بنبوته من الجن وأجواف الأصنام ومن الكهان 396