ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. هذا الحديث انفرد به مسلم (1)، ولم يخرجه البخاري، وأخرجه أبو داود من طريق ابن بريدة بمثله أو
(١) أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان، والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه، حديث رقم (١).
قوله: " لا يرى عليه أثر السفر " ضبطناه الياء المثناة من تحت، المضمومة، وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العدوي هنا: " نرى " بالنون المفتوحة، وكذا هو مسند أبي يعلى الموصلي، وكلاهما صحيح.
قوله: " ووضع كفيه على فخذيه "، معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه، وجلس على هيئة المتعلم. والله تعالى أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى، لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع، وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه، على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها، إلا أتي به، فقال صلى الله عليه وسلم: أعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان، فإن التميم المذكور في الحال العيان، إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذه الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى، في إتمام الخشوع والخضوع، وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشئ من النقائص احتراما لهم، واستحياءا منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، والإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه.
قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة، ألفنا كتاب الذي سميناه: [المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان]، إذ لا يشذ شئ من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات، عن أقسامه الثلاثة. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل "، فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما، إذ سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه، وتقواه، ووفور علمه.
قوله: " أن تلد الأمة ربتها "، وفي الرواية الأخرى " ربها " على التذكير، وفي الأخرى " بعلها " وقال: يعني السراري، ومعنى ربها وربتها، سيدها ومالكها، وسيدتها ومالكتها، قال الأكثرون من العلماء: هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهم، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين، إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما يعلمه بقرينة الحال، أو عرف الاستعمال.
وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أمه من جملة رعيته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربي، وقيل: معناه أن تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي المشترين، حتى يشتريها ابنها ولا يدري، ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد، فإنه متصور في غيرهن، فإن الأمة تلد ولدا حرا من غير سيدها بشبهة، أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها، ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد.
وأما بعلها، فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد، فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناه. قال أهل اللغة: بعل الشئ ربه ومالكه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى:
(أتدعون بعلا): أي ربا، وقيل: المراد بالبعل في الحديث، الزوج، ومعناه نحو ما تقدم، أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا أيضا معنى صحيح، إلا أن الأول أظهر، لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى كان أولى، والله أعلم.
واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع بيعهن، وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجب منهما، وقد أنكر عليهما، فإنه ليس كل ما أخبر صلى الله عليه وسلم بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما، فإن تطاول الرعاء في البنيان، وفشو المال، وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك، وأنما هذه علامات، والعلامة لا يشترط فيها شئ من ذلك، بل تكون بالخبر والشر، والمباح والمحرم، والواجب وغيره، والله أعلم.
قول صلى الله عليه وسلم: " وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البيان "، أما العالة فهم الفقراء والعائل الفقير، والعلية الفقر، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر، والرعاء بكسر الراء وبالمد، ويقال فيهم الرعاة بضم الراء وزيادة الهاء بلا مد، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والقافة، تبسط لهم الدنيا، حتى يتباهون في البنيان. والله أعلم.
قوله: " فلبث مليا " هكذا ضبطناه، لبث آخره ثاء مثلثة من غير تاء، وفي كثير من الأصول المحققة " لبثت " بزيادة تاء المتكلم، وكلاهما صحيح، وأما " مليا " بتشديد الياء، فمعناه وقتا طويلا، وفي روية أبي داود والترمذي، أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي شرح السنة للبغوي بعد الثالثة، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة بعد هذا بم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا على الرجل، فأخذوه ليردوه فلم يرو شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل " فيحمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي الله عنه بعد الثالث، إذا لم يكن حاضرا وقت إخبار الباقين، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "، فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها دينا. واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف، والآداب واللطائف، بل هو الأصل الإسلام. من فوائد هذا الحديث:
[1] أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع.
[2] أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه، ليتمكن من سؤاله، غير هائب منه ولا منقبض.
[3] أنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله، (المرجع السابق): 1 / 269 - 275.