عشرة ليلة (1) ورد الله حيي بن أخطب، حتى دخل حصن بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر (2) - وكانوا حلفاء الأنصار - فقال أبو لبابة: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أذنت لك، فأتاهم أبو لبابة، فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى، وماذا تأمرنا فإنه لا طاقة لنا بالقتال، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل. فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة. فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحدث لله ثوبة نصوحا يعلمها الله من نفسي، فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد.
وزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غاب عليه أبو لبابة: أما فرغ أبو لبابة من حلفائه، فذكر له ما فعل؟ فقال: لقد أصابته بعدي فتنة ولو جاءني لاستغفرت له وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما يشاء (3). وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، وكذا ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه في مثل سياق موسى بن عقبة عن الزهري ومثل رواية أبي الأسود عن عروة. قال ابن إسحاق ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبار بني قريظة من ناحية أموالهم يقال لها: بئر أنى (4). فحاصرهم خمسا وعشرين (5) ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف [الله] في قلوبهم الرعب. وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الامر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا بما شئتم منها. قالوا وما هن؟ قال:
نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا:
أنقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم علي هذه فالليلة ليلة السبت، وانه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.