قال أبو محمد: فالجواب: أن الله تعالى قد فعل، والآيات التي تلونا في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا وهو قبل هذا الباب الذي نحن فيه، فإن تلك الآيات ناصة نصا جليا على أن الحق في واحد، وأن سائر الأقوال كلها فاسدة وخطأ، وأمره تعالى بالرد عند التنازع إلى القرآن والسنة بيان جلي أن القول الذي يشهد له النص هو الحق وهو من عند الله تعالى، وما عداه باطل ليس من عنده. وقد أخبر تعالى أن الاختلاف ليس من عنده عز وجل، فصح أن ما لم يكن من عنده تعالى فهو باطل فصح أن الحق في واحد ضرورة وبالله تعالى التوفيق، واحتج بعضهم في ذلك بأن الحاكم مأمور بإنفاذ ما يشهد به الشاهدان العدلان عنده، وقد يشهدان على باطل فهو مأمور بما هو في الباطن باطل.
قال أبو محمد: وهذا تمويه شديد، ونعم قد أمره الله بإنفاذه شهادة هذين الشاهدين اللذين يشهدان بالباطل، بل نهاه عن ردهما، لأنه لا يدري أنهما فاسقان على الحقيقة أو مغفلان لا عدلان، ولكن لما لم يعلمهما كذلك رفع عنه الاثم في الباطن، وأمره بالحكم فهما في الظاهر، وليس يدخل بهذا في جملة المجتهدين، بل قد حكم بالحق المقطوع، على أن الله تعالى أمره بالحكم به، ولو رده لكان عاصيا لله تعالى، فهذا بمنزلة ما أمرنا به من فك الأسير ففكه بالمال فرض علينا، وأخذ العدو ذلك المال حرام عليه، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من علم الحقيق عن أن ينفذ بخلاف ما يدرك أنه حق، وسألت بعضهم فقلت له:
ما تقول فيمن لقي أجنبية فظنها زوجته فوطئها أمصيب هو محق أم مخطئ؟ فقال لي:
ما حرمها الله قط عليه مع جهله بأنها أجنبية، فقلت له: لقد أقدمت على عظيمة في قولك، إن الله تعالى لم يحرم عليه الأجنبية مع بلوغ التحريم إليه وخرقت الاجماع والنص بكذبك في قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * وهذه ليست بزوجة له ولا ملك يمين فهو عاد مخطئ واطئ حرام إلا أن الاثم عنه ساقط لجهله فقط، وأيضا فإذا لم تكن حراما عليه فهي بلا شك حلال له إذ ليس في العالم إلا حلال أو حرام.