فيه ولا يكن خلافه، وإنما يخفى علينا الحق في بعض الجزئيات، مثل بناء حديثين بأعيانهما لا ندري أيهما الناسخ من المنسوخ، ولسنا ننكر خفاء الحق علينا في بعض هذه المواضع، وقد علم غيرنا بلا شك وجه الحق فيما خفي علينا كما علمناه نحن فيما خفي على غيرنا، ومن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وورود الأوامر منه علم اليقين فيما غاب عنا بلا شك.
وقال بعضهم: قد يكون الانسان على مذهب يعضده ويقاتل عنه، ويعتقد الحق فيه ثم ينتقل إلى غيره.
قال أبو محمد: لو قال هذا من يبطل الحقائق لكان أشبه بقوله، وهذا لا معنى له، لان كل من كان على مذهب ثم تركه لآخر فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما البتة، إما أن يكون على حق ثم دخلت عليه شبهة لم ينعم فيها النظر، ولا تقصي البرهان على شرائطه، فترك الحق للباطل، وأخطأ في ذلك، أو كان على مذهب لم يقم له على صحته برهان، وإنما اعتقده بشبهة لم يتقص فيها طرائق البرهان فتركه لشبهة أخرى دخلت عليه، فانتقل من باطل إلى مثله، أو تركه لشئ يقوم عليه برهان صحيح، فانتقل من باطل إلى حق فهو لا بد مغفل ضرورة ومخطئ بلا شك، ومضرب عن طلب البرهان الصحيح، إما أنه لم يبلغه، وإما لأنه لم يتقصه ولا تأمله، فلا بد له من الخطأ كما قلنا إما في اعتقاده الأول الذي انتقل عنه، وإما في اعتقاده الثاني الذي انتقل إليه أو في كليهما. ونحن لم ننف الخطأ عن الناس بل أثبتناه، وإنما نفينا التضاد على الحق، وأن ينتقل من حق غير منسوخ إلى حق مضاد لذلك الحق الذي انتقل عنه، فهذا هو المحال الذي لا سبيل إليه البتة. وقد بينا وجوه البراهين الصحاح الذي لا يصح شئ إلا بها، والبرهان الذي لا يكون أبدا إلا صحيحا، وبينا ما يظن أنه برهان وليس ببرهان في كتابنا الموسوم بالتقريب لحدود المنطق - وهو كتاب جليل المنفعة عظيم الفائدة، لا غنى لطالب الحقائق عنه - فمن أحب أثلج، وأن يقف على علم الحقائق فليقرأه. ثم ليقرأ كلامنا في وجوه المعارف من كتابنا الموسم بكتاب الفصل، ثم ليقرأ كتابنا هذا فإنه يلوح له الحقائق دون إشكال، وبالله تعالى التوفيق، فإذا بطل كل ما شغبوا به بحمد الله، فلنقل في إقامة البرهان على إبطال قولهم الفاسد وبالله تعالى نعتصم.