الاحكام - ابن حزم - ج ٥ - الصفحة ٦٥١
واحتجوا بقوله عليه السلام: إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما سمع فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار أو كما قال عليه السلام.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو حجة عليهم، لان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما أمر به من الحكم الظاهر من البينة أو اليمين، وأخبر الناس أن ذلك لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، ولا يحيل شيئا عن وجهه، فلو كان حكم أحد من الحكام حقا، وإن كل ما خالفه حقا، لكان ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم ولكان هذا بيان واضح في أن الحق في واحد، وأن ما خالفه خطأ، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر بأن المال لزيد هو غير وجوب كون ذلك المال ملكا على الحقيقة لزيد، فهما شيئان متغايران.
وإذا كانا كذلك فمن الممكن أن يكون أحدهما حقا والآخر باطلا، فبطل احتجاجهم بذلك في قول الحق في وجهين مختلفين، بل قد أخبر عليه السلام أن الحق حق، وأن حكمه لا يحيله عن وجهه، ولا يوجب إحلال المقضي به لغير صاحبه، فإن قالوا مشاغبين: أحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظاهر الامر بما نهى عن أخذه في الباطن حكم بحق أو حكم بباطل، فإن قلتم بباطل كفرتم، وإن قلتم بحق فهو قولنا، قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق: لا يحل لمسلم أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بباطل وهو يعلم أنه باطل، ومن أجاز هذا أو ظن جوازه فهو كافر حلال الدم والمال. ولكن القول أنه صلى الله عليه وسلم ما حكم بشهادة الشهود واليمين إلا بحق مقطوع على أنه حق كما أمره الله عز وجل، وأمر المحكوم له بخلاف ما هو في باطنه حق بألا يأخذه.
ثم نقول: إنه قد صح يقينا أنه عليه السلام يحكم بما هو عنده حق فيوافق خلاف ما أمره الله تعالى به وهذا لا يسمى باطلا، ومن سمى هذا باطلا فهو كافر، وذلك نحو سلامه صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر بالمدينة من ركعتين أو ثلاث، وإعراضه عن الأعمى فنزل في ذلك من القرآن ما نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قصد في كل ذلك ما هو حق عنده. ولم يكن ذلك عند الله تعالى كذلك، فصح أن الحق في واحد ولا بد، فمن خالفه ناسيا أو هو يرى أنه حق، فليس آثما، ولكنه مأجور أجرا واحدا، ومن خالفه عامدا عالما فهو إما فاسق وإما كافر، إن كان خلافا للاسلام، وبالله تعالى التوفيق.
(٦٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 646 647 648 649 650 651 652 653 654 655 656 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال، وبطلان جميع العقود والعهود والشروط إلا ما أوجبه منها قرآن، أو سنة عن رسول الله (ص) ثابته 590
2 الباب الرابع والعشرون وهو باب الحكم بأقل ما قيل 630
3 الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف 642
4 الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل 647
5 الباب السابع والعشرون في الشذوذ 661
6 الباب الثامن والعشرون في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا وتسمية الفقهاء المذكورين في الاختلاف بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم 663
7 الباب التاسع والعشرون في الدليل 676
8 الباب الموفي ثلاثين في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض ووقت لزوم الشرائع للإنسان 678
9 الباب الحادي والثلاثون في صفه التفقه في الدين، وما يلزم كل امرئ طلبه من دينه، وصفته المفتى الذين له أن يفتى في الدين، وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الإسلام 689
10 الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في جميع الأعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر وبين الخطأ الذين لم يتعمد فعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه، وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو اثم وحيث لا يلحق 706
11 الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد (صلى الله عليه وآله) أيلزمنا إتباعها ما لم ننه عنها أم لا يجوز لنا اتباع شئ منها أصلا إلا ما كان منها في شريعتنا وأمرنا نحن به نصا باسمه فقط؟ 722