ما اتفق عليه، ورأى الآخر خروجا عما اتفق عليه، فظن أنهما بابان مختلفان، فأخطأ في ذلك بل هو كله باب واحد، لأنه كله ممن خالفنا خروج عما اتفق عليه بلا دليل، ومفارقة ما أجمع عليه بلا برهان، وهو كله في مذهبنا نحن باب واحد، لأنه كله منا ثبات على ما اتفق عليه، ولزوم لما صح الاجماع فيه، وامتناع من مفارقته، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإنه لم يقل قط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم اليوم بحكم ما، أن هذا الحكم لا يلزم الناس غدا إلا باستئناف برهان مجدد، بل الأمة كلها مجمعة على وجوب حكم النص وتماديه إلى يوم القيامة. وكذلك حكمه عليه السلام على زان أو سارق، هو حكم منه على كل زان أو سارق إلى يوم القيامة. وهكذا كل ما حكم به النص في عين ما هو حكم في نوع تلك العين أبدا، ولو كان خلاف ذلك - ونعوذ بالله من هذا الظن - لبطلت لوازم نبوته صلى الله عليه وسلم في الزمان الآتي بعده، وهذا كفر من معتقده، فصح أن حكمه صلى الله عليه وسلم في زمانه حكم باق في كل زمان أبد الأبد، ولم يقل قط مسلم إنه صلى الله عليه وسلم إذا حكم بأخذ درهم، أو ضرب عشرة أسواط، أو إيجاب ركعتين، أو صوم يوم إنه يجب بذلك أخذ درهمين، وضرب عشرين سوطا، أو إيجاب أربع ركعات وصوم يومين، بل هذه حدود الله تعالى التي حرم تعديها، وأخبر أن متعديها من الظالمين بقوله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * فهذا فرق أوضح من الشمس لا يراها العميان، وقد تغيب عن بعض الأماكن في بعض الأوقات. وهذا برهان لا يغيب نوره أبدا، ويراه كل ذي عقل وحس سليم ممن خوطب بالديانة، وأيضا فإن أقل ما قيل حق ويقين، لأنه إجماع وخصمنا موافق لنا على وجوبه والزيادة عليه شك، ودعوى وظن، ولا يحل رفع اليقين بالشك ولا ترك الحق بالظن، ومفارقة الواجب بالدعوى، وقد حرم الله تعالى ذلك، إذ يقول عز وجل: * (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وفيما ذكرنا كفاية لمن له عقل ونصح نفسه، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: أنتم تقولون إن الاجماع والنص أصلان، والعمل بهما فرض، وأنتم تأخذون في النص بالزائد أبدا، ولا تأخذون بالمتيقن عليه، وتأخذون في الاجماع بأقل ما قيل، وهو المتفق عليه، فكيف هذا؟.