وإن أمسك عن كل ذلك لا بنية الرياء ولا بنية الطاعة كما أمر، فليس مطيعا ولا عاصيا، وإذا لم يكن كذلك فليس صائما، وإذا لم يمسك بنية الطاعة عن ذلك في صوم الفرض في الوقت الذي أمر فيه بالامساك عن كل ما ذكرنا فهو عاص، لأنه خالف ما أمر به وهكذا القول في رمي الجمار والوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف والسعي. وكذلك سائر الأشياء كلها. فمن أكل الشعير مؤثرا بالبر المساكين، ناويا للبر في ذلك، ففاضل محمود، ومن أكله لؤما وبخلا وخزن البر مستكثرا للمال. فمذموم آثم، ومن مشى راجلا وحمل متاعه بيده، تواضعا لله تعالى لا بخلا ولا دناءة، وتصاون عن الخسائس مع ذلك، وتصدق ناويا بكل ذلك ما ذكرنا، فهو فاضل محمود، ومن فعل ذلك بخلا ودناءة فمذموم، وإن فعل بنية رياء ففاسق، ومن أنكح بنته عبده أو علجا - كما فعل ضرار بن عمرو - تواضعا ونيته التسوية بين المسلمين، وهو مع ذلك عزيز النفس غير طمع ولا جشع ففاضل محمود عند أهل العقول، رائض لنفسه الغضبية، ومن فعل ذلك طمعا أو مهانة نفس فمذموم ساقط، ومن لبس الوشي المرتفع الذي ليس حريرا بنية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فمأجور فاضل، ومن لبسه بنية التخنث والأشر والاعجاب ففاسق مذموم، وهكذا جميع الأعمال، أولها عن آخرها، فصح أن لا عمل أصلا إلا بنية كما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: أنتم تقولون فيمن أعتق في نفسه أمته أو عبده، ونوى عتقهما وأمضاه نية صحيحة، إلا أنه لم يلفظ بعتقهما أنهما لا يكونان بذلك حرين، ولا يكون هو معتقا لا عند الله ولا في الحكم، فإن العبد والأمة باقيان مملوكين له كما كانا. وتقولون فيمن طلق في نفسه، ونوى الطلاق إلا أنه لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الطلاق: إنه لا يكون مطلقا بذلك لا عند الله ولا في الحكم، وإنما امرأته حلال له كما كانت، حتى أنكم تقولون: إنه إن لفظ بلفظ ليس من ألفاظ الطلاق ونوى به الطلاق، إنه لا يلزمه بذلك طلاق وإنها امرأته كما كانت حلال له في الحكم والفتيا معا.
وتقولون: إن من وهب نيته أو تصدق بنيته بشئ من ماله مسمى، ولكنه لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الهبة أو الصدقة إنه بذلك غير واهب ولا متصدق،