وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبلغ عنه، وهذا التفقه والنذارة التي أمر الله تعالى بها، وليت شعري، إذا كان الاكثار من الحديث شرا فأين الخير؟ أفي التقليد الذي لا يلزمه إلا جاهل أو فاسق؟ أم في التحكم في دين الله عز وجل بالآراء الفاسدة التي قد حذر الله تعالى منها، وزجر النبي صلى الله عليه وسلم عنها.
وفخر بعضهم بأن مالكا كان يسقط من موطئه كل سنة وإنه لم يحدث بكثير مما كان عنده.
قال علي: هذا فخر من يريد أن يمدح فيذم، ويريد أن يبني فيهدم، ولا يخلو ما حدث به مالك وما لم يحدث به من أن يكون حدث بالصحيح عنده، وترك ما لم يصح فقد أحسن. وكذا كل من حدث أيضا بما يصح عنده ممن ليس مالك بأعلم منه، ولا أروع كسفيان وشعبة والأوزاعي وأيوب وغيرهم، وأن يكون حدث بالسقيم وكتم الصحيح، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، لان هذه صفة أفسق الفاسقين، أو يكون حدث بسقيم وصحيح، وكتم صحيحا وسقيما، فمن فعل ذلك فهو آثم وملعون لكتمانه علما صحيحا عنده، فبطل ما أرادوا يمدحوه به، وعاد ذما عظيما لو صح عليه ذلك، وأعوذ بالله من ذلك.
وبرهان آخر يوضح كذب من قال هذا، وهو أن الموطأ ألفه مالك رضي الله عنه بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك، ومات يحيى بن سعيد في سنة ثلاث وأربعين ومائة. ولسنا نقول هذا بظننا بل يقينا، فهكذا روينا بإسناد متصل إلى يحيى بن سعيد القطان أنه قال: لقينا مالكا قبل أن يصنف، ولقيناه سنة اثنتين وأربعين ومائة بعد موت موسى بن عقبة بسنة، ولم يزل الموطأ يروى عن مالك منذ ألفه، طائفة بعد طائفة، وأمة بعد أمة، وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه، وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة، وموطؤه أكمل الموطآت، لأنه فيه خمسمائة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمسمائة حديث وتسعة وخمسون حديثا، وكان سماع ابن وهب للموطأ من مالك قبل سماع أبي المصعب بدهر، وكذلك سماع ابن القاسم، ومعن بن عيسى، وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمسمائة حديث وثلاثة أحاديث،