قرب وإما من بعد، وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه، فوافق فيه الحق، وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال، برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس كلهم إلى الايمان بالله تعالى، وبما جاء به والنطق بذلك، ولم يشترط عليه السلام عليهم ان ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال، بل قنع بهذا من العالم والجاهل، والحر والعبد، والمسبي والمستعرب، واجتمعت الأمة على ذلك بعده عليه إلى اليوم.
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه، ولم يشترط عليهم استدلالا في ذلك، فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به، إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك، ولحرم عليه اعتقاده لان الله تعالى يقول:
* (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وقال تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به، ومنهي عن القول بما لا يعلم، وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال، ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به، وعن قفو ما لا نعلم، كان مدعيا بلا دليل، ومبطلا في قوله لأنه يقول:
* (لا تقف ما ليس لك به علم) * إلا في الايمان، فاقف فيه ما لا علم لك به، وهذا كذب على الله تعالى مجرد.
فإن قال قائل: فإن الله يقول: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * قلنا: نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل، ولا برهان لصاحب الباطل، وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم، سواء علمه المعتقد له أو جهله، وإنما يكف البرهان أهل الباطل لادحاض باطلهم، ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا، لأنه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا، فإن كان محقا مثله فهو معنت له، والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في الحق، قال تعالى: * (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) * وقال تعالى: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) * فلا يجوز تكليف المحق برهانا إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة، لان من فعل ذلك يكون معارضا للحق، ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز، قال تعالى ذاما لقوم: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) *