وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الالتصاق بينهما من حيث إن الواو شأنها الجمع والربط فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لصوقا بالموصوف منها به في قوله تعالى وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون فإن امتناع انفكاك الإهلاك عن الأجل المقدر عقلي وعن الإنذار عادى جرى عليه السنة الإلهية ولما بين أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوبا في اللوح بين أن كل أمة من الأمم منهم ومن غيرهم لها كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقيل (ما تسبق من أمة ) من الأمم المهلكة وغيرهم (أجلها) المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قيل مضى أجلها فإن السبق إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وإذا كان واقعا على زمان كان الأمر بالعكس والسر في ذلك أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى المتكلم فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيراده بعنوان الكتاب المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك (وما يستأخرون) أي وما يتأخرون وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعد ما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما واستمرارهما فيما بين الأمم الماضية والباقية وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة دون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة وتأخير ذكر عدم تأخرهم عن ذكر عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق في الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ولذلك حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أشير إليه ببيان ودادتهم للإسلام إذ ذاك وبالأمر بتركهم وشأنهم إلى أن يعلموا حقيقة الحال إنما هو لتأخر أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم البالغة ومن جملتها ما علم الله تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم إلى يوم القيامة (وقالوا) شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب وما يؤول إليه حالهم والقائلون مشركو مكة لغاية تماديهم في العتو والغي (يأبها الذي نزل عليه الذكر) خاطبوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسليما لذلك واعتقادا له بل استهزاء به عليه الصلاة والسلام وإشعارا بعلة حكمهم الباطل في قولهم (إنك لمجنون) كدأب فرعون إذ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون يعنون يامن يدعى مثل هذا الأمر البديع الخارق للعادات إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عند ما تدعى أنه ينزل عليك لمجنون
(٦٦)