وإنزال الكتب المنطوية على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشاد إلى مسلك الاستدلال بتلك الأدلة التكوينية الآفاقية والأنفسية والتنبيه على مكانها كما أشير إليه مجملا في قوله تعالى وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي قوله عز وعلا «إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون» ومنها الهداية الخاصة وهي كشف الأسرار على قلب المهدي بالوحي أو الإلهام ولكل مرتبة من هذه المراتب صاحب ينتحيها وطالب يستدعيها والمطلوب إما زيادتها كما في قوله تعالى «والذين اهتدوا زادهم هدى» وإما الثبات عليها كما روى عن علي وأبي رضي الله عنهما اهدنا ثبتنا ولفظ الهداية على الوجه الأخير مجاز قطعا وأما على الأول فإن اعتبر مفهوم الزيادة داخلا في المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضا وإن اعتبر خارجا عنه مدلولا عليه بالقرائن كان حقيقة لأن الهداية الزائدة هداية كما أن العبادة الزائدة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وقرئ أرشدنا والصراط الجادة أصله السين قلبت صادا لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر من سرط الشئ إذا ابتلعه سميت به لأنها تسترط السابلة إذا سلكوها كما سميت لقما لأنها تلتقمهم وقد تشم الصاد صوت الزاي تحريا للقرب من المبدل منه وقد قرئ بهن جميعا وفصحاهن إخلاص الصاد وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وجمعه صرط ككتاب وكتب وهو كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث والمستقيم المستوى والمراد به طريق الحق وهي الملة الحنفية السمحة المتوسطة بين الإفراط والتفريط «صراط الذين أنعمت عليهم» بدل من الأول بدل الكل وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة وفائدته التأكيد والتنصيص على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العلم في الاستقامة والمشهود له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهم عند ذكر الطريق المستقيم إلا إليه وإطلاق الإنعام لقصد الشمول فإن نعمة الإسلام عنوان النعم كلها فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها وقيل المراد بهم الأنبياء عليهم السلام ولعل الأظهر أنهم المذكورون في قوله عز قائلا «فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين» بشهادة ما قبله من قوله تعالى «ولهديناهم صراطا مستقيما» وقيل هم أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل النسخ والتحريف وقرئ صراط من أنعمت عليهم والإنعام إيصال النعمة وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان من النعمة وهي اللين ثم أطلقت على ما تستلذه النفس من طيبات الدنيا ونعم الله تعالى مع استحالة احصائها ينحصر أصولها في دنيوي وأخروي والأول قسمان وهبي وكسبي والوهبي أيضا قسمان روحاني كنفخ الروح فيه وإمداده بالعقل وما يتبعه من القوى المدركة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعم جليلة في أنفسها وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وسلامة الأعضاء والكسبي تخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات البهية وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية وحصول الجاه والمال والثاني مغفرة ما فرط منه والرضى عنه وتبوئته في أعلى عليين مع المقربين والمطلوب هو القسم الأخير وما هو ذريعة إلى نيله من القسم الأول اللهم أرزقنا ذلك بفضلك العظيم ورحمتك الواسعة «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» صفة للموصول على أنه عبارة عن احدى الطوائف المذكورة المشهورة بالإنعام عليهم وباستقامة المسلك ومن ضرورة
(١٨)