فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم، والله تعالى أعلم.
الرابعة - لما قال: " من البينات والهدى " دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الاخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد الله (1): البلعوم مجرى الطعام.
قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى أعلم.
الخامسة - قوله تعالى: " من بعد ما بيناه " الكناية في " بيناه " ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة.
السادسة - قوله تعالى: " أولئك يلعنهم الله " أي يتبرأ منهم ويبعد هم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للعين: " وإن عليك لعنتي ". وأصل اللعن في اللغة الابعاد والطرد، وقد تقدم (2).
السابعة - قوله تعالى: " ويلعنهم اللاعنون " قال قتادة والربيع: المراد ب " اللاعنون " الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى الكلام. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم.
قال الزجاج: والصواب قول من قال: " اللاعنون " الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا.