قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الاتيان من محل الدم على ما سنبين.
وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه، واما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير أن العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهن في هذا الحال، وغيرهم ربما كانوا يستحبون اتيان النساء في المحيض ويعتقدون ان الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين.
وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وان كان ظاهره الامر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكده قوله تعالى ثانيا: ولا تقربوهن، إلا ان قوله تعالى أخيرا فأتوهن من حيث امركم الله - ومن المعلوم انه محل الدم - قرينة على أن قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الاتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ.
فالاسلام قد اخذ في أمر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود والاهمال المطلق الذي عليه النصارى، وهو المنع عن اتيان محل الدم والاذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال:
فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه ان المحيض الأول أريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الأول، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.
قوله تعالى: حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، الطهارة وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملة الاسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من