العسقلاني، وأنا أورد هاهنا خطبة من مواعظه، هي أحسن ما وجدته له، ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل والمولد:
أيها الناس، فكوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة، وخففوا ظهوركم من الآصار المستحقبة، ولا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة، ولا تميلوا صغوكم إلى زبارج الدنيا المحببة، فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة! أما علمتم أن طباعها على الغدر مركبة، وأنها لأعمار أهلها منتهبة، ولما ساءهم منتظرة مرتقبة، في هبتها راجعة متعقبة!
فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة ومغربة، وأجروا خيول التفكر مصعدة ومصوبة، هل تجدون إلا قصورا على عروشها خربة، وديارا معطشة من أهلها مجدبة!
أين الأمم السالفة المتشعبة، والجبابرة الماضية المتغلبة، والملوك المعظمة المرجبة، أولو الحفدة والحجبة، والزخارف المعجبة، والجيوش الحرارة اللجبة، والخيام الفضفاضة المطنبة، والجياد الأعوجية المجنبة، والمصاعب الشدقمية المصحبة، والدان المثقفة المدربة، والماذية الحصينة المنتخبة، طرقت والله خيامهم غير منتهبة، وأزارتهم من الأسقام سيوفا معطبة، وسيرت إليهم الأيام من نوبها كتائب مكتبة، فأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية مختضبة، وغدت أصوات النادبات عليهم مجلبة، وأكلت لحومهم هوام الأرض السغبة، ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر ولا معتبة، وتجازى كل نفس بما كانت مكتسبة، فسعيدة مقربة تجرى من تحتها الأنهار مثوبة، وشقية معذبة في النار مكبكبة.
هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي كما تراها ظاهرة التكلف، بينة التوليد، تخطب على نفسها، وإنما ذكرت هذا، لان كثيرا من أرباب الهوى يقولون: إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضى أبى الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح