فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات، جيران لا يتأنسون وأحباء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلهم وحيد، وهم جميع وبجانب الهجر وهم أخلاء، لا يتعارفون لليل صباحا، ولا لنهار مساء أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا.
شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا، ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا فكلا الغايتين مدت لهم إلى مباءة فأتت مبالغ الخوف والرجاء، فلو كانوا ينطقون بها، لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا.
ولئن عميت آثارهم، وانقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، و سمعت عنهم آذان العقول، وتكلموا من غير جهات النطق، فقالوا كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجساد النواعم، ولبسنا أهدام البلاء، وتكاءدنا ضيق المضجع وتوارثنا الوحشة، وتهكمت علينا الربوع الصموت، فانمحت محاسن أجسادنا وتنكرت معارف صورنا، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا، ولم نجد من كرب فرجا ولا من ضيق متسعا.
فلو مثلتهم بعقلك، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكت، واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت، وتقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها، وهمدت القلوب في صدرهم بعد يقظتها، وعاث في كل جارحة منهم جديد بلى سمجها، وسهل طرق الآفة إليها مستسلمات، فلا أيد تدفع، ولا قلوب تجزع، لرأيت أشجان قلوب، وأقذاء عيون، لهم من كل فظاعة صفة حال لا تنتقل وغمرة لا تنجلي.
وكم أكلت الأرض من عزيز جسد، وأنيق لون، كان في الدنيا غذي ترف، وربيب شرف يتعلل بالسرور في ساعة حزنه، ويفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت به، ضنا بغضارة عيشه، وشحاحة بلهوه ولعبه.
فبينا هو يضحك إلى الدنيا وتضحك إليه، في ظل عيش غفول، إذ وطئ الدهر به حسكه، ونقضت الأيام قواه، ونظرت إليه الحتوف من كثب فخالطه بث