بهذه الوجوه الأربعة تعذر الوقوف على طبائعها الفعالة، وأما القوى المنفعلة فالوقوف التام عليها كالمتعذر، لان القبول التام لا يتحقق إلا مع شرائط مخصوصة في القابل من الكم والكيف والوضع والأين وسائر المقولات، والمواد السفلية غير ثابتة على حالة واحدة، بل هي أبدا في الاستحالة والتغير، وإن كان لا يظهر في الحس، فقد ظهر بما قررنا أن الوقوف التام على أحوال القوى الفعالة السماوية والقوى الأرضية المنفعلة غير حاصل للبشر، ولو حصل ذلك لاحد لوجب أن يكون ذلك الشخص عالما بجميع التفاصيل الحاصلة من الماضية والآتية، وأن يكون متمكنا من إحداث جميع الأمور التي لا نهاية لها.
ثم قالوا: فهذه المباحث والملامح (1) مما يوهن العقل عن التمكن من هذه الصناعة، إلا أنه نعم ما قيل من أن مالا يدرك كله لا يترك كله فالقوى البشرية وإن قصرت عن اكتناه هذه القوى العالية الفعالة والسافلة المنفعلة ولكن يمكنها الاطلاع على بعض أحوالها، وإن كان ذلك القدر تافها حقيرا بالنسبة إلى ما في الوجود لكنه عظيم بالنسبة إلى قدرة الانسان وقوته، لان الاحكاميين من أهل النجوم قد وقفوا بسبب التجارب المتطاولة قرنا بعد قرن على كثير من أحوال السبعة السيارة وكثير من الثوابت، وعرفوا من أحوال البروج والحدود [والوجوه] والمثلثات ما يعظم الانتفاع بمعرفته لمن اطلع عليه وأحاط به، وليس يلزمنا أنه لما تعذر علينا تحصيل اليقين التام بها واسطة البراهين المنطبقة أن يترك الانتفاع بها مع ما تشاهد من صحة قوانينها الكلية، كما لا يلزم من عدم قيام الدلائل الطبيعية (2) على طبائع الأغذية والأدوية البسيطة والمركبة أن لا ينتفع بها، بل هذه الصناعة أولى بالرعاية من صناعة الطب، وذلك لأنهما بعد اشتراكهما في عدم البراهين المنطبقة على مطالبها امتازت هذه الصناعة عن صناعة الطب بوصف نافع، وذلك أن الدواء المتناول لو لم ينفع يحصل من تناوله ضرر عظيم، وأما هذه الصناعة فلو لم تنفع لم تضر.