وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا أو على هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها، فلا بد لها من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته، وتقتضيه مشيته، متعاليا عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه [الآخر] فإن توافقت إرادتهما فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد، وإن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وعجز الآخر النافي لإلهيته، وإن اختلفت لزم التمانع والتطارد، كما أشار إليه بقوله تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (1) " (انتهى).
وأقول: قد مر في كتاب التوحيد بسط القول في الاستدلال بحدوث تلك الأشياء وإمكانها على افتقارها إلى صانع قديم واجب بذاته، واشتمالها على الحكم المتناهية على قدرته - سبحانه - وعلمه وحكمته ولطفه، وبانتظامها وتلازمها على وحدة صانعها، فلا نعيد الكلام فيها.
" وهو الذي أنزل من السماء ماء " قال الرازي: اختلف الناس فيه، فقال الجبائي: إنه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض قال: لان ظاهر النص يقتضي نزول المطر من السماء، والعدول عن الظاهر إلى التأويل إنما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أن إجراء اللفظ على ظاهره غير ممكن وفي هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء، فوجب إجراء اللفظ على ظاهره. وأما قول من يقول: إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء فينعقد الغيم منها ويتقاطر وذلك هو المطر فقد احتج الجبائي على فساده بوجوه: الأول أن البرد قد يوجد في وقت الحر [بل] في صميم الصيف، ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد، وذلك يبطل قولهم. الثاني أن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت وتفرقت لم يتولد منها قطرات الماء. الثالث لو كان تولد المطر من صعود البخارات فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار. فوجب أن يدوم هناك نزول المطر، وحيث لم يكن الامر كذلك علمنا