فصار ظهور كل واحد واحتجابه في وقت غير الوقت الآخر لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد منها على حدته، وكما جعلت الثريا وأشباهها تظهر حينا وتحجب حينا لضرب من المصلحة كذلك جعلت بنات النعش ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة، فإنها بمنزلة الاعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة، وذلك أنها لا تغيب ولا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاؤوا، وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الإرب والمصلحة، وفيها مآرب أخرى: علامات ودلالات على أوقات كثيرة من الاعمال كالزراعة والغراس والسفر في البر والبحر، وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحر والبرد، وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل لقطع القفار الموحشة واللجج الهائلة، مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العبر، فإنها تسير أسرع السير وأحثه، أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منا حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه ألم تكن ستخطف الابصار بوهجها وشعاعها، كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت واضطربت في الجو، وكذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم، فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد لكيلا تضر في الابصار، وتنكأ فيها، وبأسرع السرعة لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها، وجعل فيها جزء يسير من الضوء ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة، كما قد يحدث الحارث على المرء فيحتاج إلى التجافي في جوف الليل، وإن لم يكن شئ من الضوء يهتدى به لم يستطع أن يبرح مكانه، فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة ومدة لحاجة إليها، وجعل خلالها شئ من الضوء للمأرب التي وصفنا.
فكر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم [في] هذا الدوران الدائم بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف الليل والنهار وهذه الأزمان الأربعة المتوالية على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة كالذي