أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال (فيم؟) فقد ضمنه، ومن قال (على م؟) فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شئ لا بمقارنة، وغير كل (1) شئ لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده، أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطراب فيها أحال الأشياء لأوقاتها ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها وألزمها أشباحها، عالما (بها) قبل ابتدائها، ومحيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها، ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشق الارجاء، وسكائك الهواء فأجرى (2) فيها ماء متلاطما تياره، متراكما زخاره، حمله على متن الريح العاصفة والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده، وقرنها على حده: الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق (3) ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها وأدام مربها وأعصف مجريها، وأبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد أوله على آخره، وساجيه على مائره حتى عب عبابه ورمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا، وعلياهن سقفا محفوظا وسمكا مرفوعا بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينتظمها، ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب فأجرى فيها سراجا مستطيرا، وقمرا منيرا، في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر، ثم فتق ما بين السماوات العلى، فملأهن أطوارا من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون لا يغشاهم نون العيون (4)، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان
(١٧٧)