والآخر أنه كلامه تعالى ابتداءا وكلاهما محتمل، وإذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله:
يضل به كثيرا أن الكفار يكذبون به وينكرونه، ويقولون: ليس هو من عند الله فيضلون بسببه، وإذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه، وقوله: " ويهدي به كثيرا " يعني الذين آمنوا به وصدقوه، وقالوا: هذا في موضعه، فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه، فمعنى الاضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال فالمعنى أن الله يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير، ويهدي بها قوم كثير، ومثله قوله:
" رب إنهن أضللن كثيرا من الناس (1) أي ضلوا عندها، وهذا مثل قولهم: أفسدت فلانة فلانا وأذهبت عقله، وهي ربما لم تعرفه ولكن لما ذهب عقله وفسد من أجلها أضيف الفساد إليها، وقد يكون الاضلال بمعنى التخلية على وجه العقوبة وترك المنع بالقهر ومنع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين جزاءا على إيمانهم، وهذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه:
أفسدت سيفك; أريد به أنك لم تحدث فيه الاصلاح في كل وقت بالصقل والاحداد.
وقد يكون الاضلال بمعنى التسمية بالضلال والحكم به كما يقال: أضله إذا نسبه إلى الضلال، وأكفره: إذا نسبه إلى الكفر، قال الكميت: وطائفة قد أكفروني بحبكم.
وقد يكون الاضلال بمعنى الاهلاك والعذاب والتدمير، ومنه قوله تعالى: " إن المجرمين في ضلال وسعر " (2) ومنه قوله تعالى: " أإذا ضللنا في الأرض " (3) أي هلكنا، وقوله:
" والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم " (4) أي لم يبطل فعلى هذا يكون المعنى:
أن الله تعالى يهلك ويعذب بالكفر به كثيرا بأن يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسببه فيهلكوا ويهدي إلى الثواب وطريق الجنة بالايمان به كثيرا; عن أبي على الجبائي قال:
ويدل على ذلك قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " لأنه لا يخلو من أن يكون أراد العقوبة على التكذيب كما قلناه، أو يكون أراد به التحيير والتشكيك، فإن أراد الحيرة فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله إلا إذا وجدت حيرة قبلها أيضا، وهذا يوجب وجود